وفي قراءة ابن مسعود: "من بعد ما زاغت"، وهم المتخلفون على هذه
القراءة، وفي تكرير التوبة عليهم بقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ} [التوبة: 117]) تأكيد ظاهر، واعتناء بشأنها، هذا إن كان الضمير راجعًا
إلى من تقدّم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق، فلا تكرار، قاله
({وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا})؛ أي: وتاب على الثلاثة الذين خلّفوا؛
أي: أُخِّروا، ولم تُقبل توبتهم في الحال، كما قُبلت توبة أولئك المتخلفين
المتقدم ذكرهم، قال ابن جرير: معنى خُلّفوا: تُركوا، يقال: خَلَّفت فلانًا:
فارقته. وقرأ عكرمة بن خالد: "خلفوا" بالتخفيف؛ أي: أقاموا بعد نهوض
رسول الله -صلي الله عليه وسلم- والمؤمنين إلى الغزو. وقرأ جعفر بن محمد: "خالفوا"، وهؤلاء
الثلاثة هم: كعب بن مالك، ومُرارة بن الربيع، أو ابن ربيعة العامريّ،
وهلال بن أمية الواقفيّ، وكلهم من الأنصار، لم يَقبل النبيّ -صلي الله عليه وسلم- توبتهم، حتى
نزل القرآن بأن الله قد تاب عليهم. وقيل: معنى {خُلِّفُوا} [التوبة: 118]:
فسدوا، مأخوذ من خُلوف الفم.
({حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ}) معناه: أنهم أُخّروا عن قبول
التوبة إلى هذه الغاية، وهي وقت أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، و"ما"
مصدرية؛ أي: برحبها، لإعراض الناس عنهم، وعدم مكالمتهم من كل أحد؛
لأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- نهى الناس أن يكالموهم، والرحب: الواسع، يقال: منزل
رحب، ورحيب، ورحاب، وفي هذه الآية دليل على جواز هجران أهل
المعاصي تأديبًا لهم؛ لينزجروا عن المعاصي.
{وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} معنى ضِيق أنفسهم عليهم: أنها ضاقت
صدورهم بما نالهم من الوحشة، وبما حصل لهم من الجفوة.
وقوله: (حَتَّى بَلَغَ)؛ أي: قرأ كعب الآية من أولها إلى أن بلغ قوله
تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} وتمام القراءة:
{وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ