والتشديد، بمعنى واحد؛ أي: لئن قدر عليه أن يعذبه ليعذبنه، ولكن هذا
كالذي قبله معنى غير مناسب للسوق أصلًا، مع أنَّه وقع في حديث معاوية بن
حيدة عند أحمد 4/ 447 و 5/ 3، 4: "ثمَّ اذروني في الريح، لعلي
أضلّ الله - عز وجل"؛ أي: أغيب عنه، وأفوته، يقال: ضل الشيءُ: إذا فات
وذهب، وهو كقوله تعالى: {لَا يَضِلُّ رَبِّي} [طه: 52]، وهذا يدلّ على أن
قوله: "لئن قدر الله عليه" على ظاهره، وأنه أراد التمنع بالتحريق من قدرة الله،
ومع ذلك أخبر الصادق بغفرانه، فلا بد من وجه يمكن القول بإيمانه، فقيل:
مقصود الرجل بهذه الوصية: إن فرقوا أجزائي في البرّ والبحر بحيث لا يكون
هناك سبيل إلى جَمْعها، فيَحْتَمِل أنَّه رأى أن جَمْعه حينئذٍ يكون مستحيلًا،
والقدرة لا تتعلّق بالمستحيل، فلذلك قال: "فلئن قدر الله عليه"، فلا يلزم أنَّه
نفى القدرة، أو شك فيها، فصار بذلك كافرًا، فكيف يغفر له؟ وذلك أنَّه ما
نفى القدرة على ممكن، وإنما فَرَض غير المستحيل مستحيلًا فيما لم يثبت عنده
أنَّه ممكن من الدين بالضرورة، والكفر هو الأوّل لا الثاني.
وقيل: إن الرجل ظن أنَّه إذا فعل هذا الصنيع تُرك فلم يُنْشَر، ولم يعذَّب،
وأما تلفّظه بقوله: "لئن قدر الله"، وبقوله: "فلعلي أضل الله" فلأنه كان جاهلًا
بذلك.
وقد اختُلف في مثله، هل يكفر أم لا؟ بخلاف الجاحد للصفة.
قال الخطابيّ: إنه لم ينكر البعث، وإنما جهل، فظن أنَّه إذا فُعل به ذلك
لا يعاد، فلا يعذَّب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنّه إنما فعل ذلك من خشية الله.
وقيل: كان هذا الرجل موحّدًا مثبتًا للصانع، وكان في زمن الفترة حين
ينفع مجرد التوحيد، ولم تبلغه شرائط الإيمان، ولا تكليف قبل ورود الشرع
على المذهب الصحيح؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}
[الإسراء: 15].
وقيل: إنما وصى بذلك تحقيرًا لنفسه، وعقوبة لها بعصيانها، وإسرافها؛
رجاء أن يرحمه، فيغفر له، وهذا يؤيد أن قوله: "لئن قدر" بمعنى ضيّق، وقيل:
لقي من هول المطلع ما أدهشه، وسَلَب عقله، فلم يتمكن من تمهيد القول،
وتخميره، فبادر بسَقْط من القول، وأخرج كلامه مخرجًا لم يعتقد حقيقته.