وقال ابن التين: القرب هنا نظير ما تقدم في قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)} [النجم: 9] فإن المراد به: قُرب الرتبة، وتوفير الكرامة،
والهرولة كناية عن سرعة الرحمة إليه، ورضا الله عن العبد، وتضعيف الأجر،
قال: والهرولة ضَرْب من المشي السريع، وهي دون الْعَدْو.
وقال صاحب "المشارق": المراد بما جاء في هذا الحديث: سرعة قبول
توبة الله للعبد، أو تيسير طاعته، وتقويته عليها، وتمام هدايته، وتوفيقه، والله
أعلم بمراده.
وقال الراغب: قُرب العبد من الله التخصيص بكثير من الصفات التي
يصح أن يوصف الله بها، وإن لم تكن على الحدّ الذي يوصف به الله تعالى،
نحو الحكمة، والعلم، والحلم، والرحمة، وغيرها، وذلك يحصل بإزالة
القاذورات المعنوية، من الجهل، والطيش، والغضب، وغيرها، بقدر طاقة
البشر، وهو قُرب روحانيّ لا بدنيّ، وهو المراد بقوله: "إذا تقرب العبد مني
شبرًا تقربت منه ذراعًا". انتهى (?).
وقال القرطبيّ: قوله: "وإن تقرّب إليّ شبرًا إلخ" هذه كلّها أمثالٌ ضُربت
لمن عَمِل عملًا من أعمال الطاعات، وقَصَد به التقرّب إلى الله تعالى، تدلّ
على أن الله تعالى لا يُضيع عمل عامل، وإن قل، بل يقبله، ويجعل له ثوابه
مضاعفًا، ولا يَفهَم من هذا الحديث الْخُطا: نقلَ الأقدام إلا من ساوى الْحُمُر
في الأفهام.
[فإن قيل]: مقتضى ظاهر هذا الخطاب أن من عمل حسنة جوزي
بمثليها، فإنَّ الذراع: شبران، والباع: ذراعان، وقد تقرر في الكتاب والسُّنَّة أن
أقلّ ما يُجازَى على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف
كثيرة، لا تحصى، فكيف وجه الجمع؟ .
[قلنا]: هذا الحديث ما سيق لبيان مقدار الأجور، وعدد تضاعيفها،
وإنما سيق لتحقيق أن الله تعالى لا يُضيّع عمل عامل قليلًا كان أو كثيرًا،
وأن الله تعالى يُسرع إلى قبوله، وإلى مضاعفة الثواب عليه إسراع من جيء إليه