و {يَقُولُونَ} على هذاخبرُ {الرَّاسِخُونَ}.
قال الخطابيّ: وقد جعل الله تعالى آيات كتابه الذي أَمَرنا بالإيمان به،
والتصديق بما فيه قسمين: محكمًا ومتشابهًا، فقال عز من قائل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} إلى قوله: {كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ رَبِّنَا}، فاعلَمَ أن المتشابه من الكتاب قد استأثر الله بعلمه، فلا يَعلَم تأويله
أحد غيره، ثم أثنى الله -عز وجل- على الراسخين في العلم بأنهم {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}،
ولولا صحة الإيمان منهم لم يستحقوا الثناء عليه، ومذهب أكثر العلماء أن
الوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}،
وأن ما بعده استئناف كلام آخر، وهو قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا
بِهِ}. ورُوي ذلك عن ابن مسعود، وأبي بن كعب، وابن عباس، وعائشة - رضي الله عنهم -.
وإنما رُوي عن مجاهد أنه نَسَقَ {الرَّاسِخُونَ} على ما قبله، وزَعَم أنهم يعلمونه،
واحتج له بعض أهل اللغة، فقال: معناه: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يعلمونه قائلين:
آمنّا، وزعم أن موضع يَقُولُونَ نَصْبٌ على الحال، وعامة أهل اللغة ينكرونه،
ويستبعدونه؛ لأن العرب لا تُضمِر الفعل والمفعول معًا، ولا تَذكُر حالًا إلا مع
ظهور الفعل، فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حالٌ، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال:
عبد الله راكبًا، بمعنى: أقبل عبد الله راكبًا، وإنما يجوز ذلك مع ذِكر الفعل،
كقوله: عبد الله يتكلم، يصلح بين الناس، فكان "يصلح" حالًا، كقول
الشاعر- أنشدنيه أبو عمر قال: أنشدنا أبو عباس ثعلب-:
أَرْسَلْتُ فِيهَا قَطِمًا (?) لُكَالِكَا ... يَقْصُرُ يَمْشِي وَيَطُولُ بَارِكَا
أي: يقصر ماشيًا. فكان قوله عامة العلماء، مع مساعدة مذاهب النحويين
له أَولى من قول مجاهد وحده. وأيضًا فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئًا
عن الخلق، ويُثبِته لنفسه، ثم يكون له في ذلك شريك، ألا ترى قوله -عز وجل-: {قُلْ
لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقوله: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا
إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187]، وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]،