فقال أوّلًا: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}، وثانيًا قال:
{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وكان يُمكن أن يقال: وأما الذين في قلوبهم
استقامة فيتّبعون المحكم، لكنه وضع موضع ذلك: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ
آمَنَّا}، وإنما وَضع {يَقُولُونَ آمَنَّا} موضع "يتبعون المحكم" لإيثار لفظ الرسوخ
في الابتداء؛ لأن الرسوخ في العلم لا يحصل إلا بعد التتبع التام، والاجتهاد
البليغ، فإذا استقام القلب على طريق الرشاد، ورَسَخَ القدمُ في العلم، أفصح
صاحبه النطق بالقول الحق؛ إرشادًا للخلق، وكفى بدعاء الراسخين في العلم:
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} شاهدًا على أن {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مقابِلٌ
لقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}، وفيه إشارة إلى أنّ الوقف على قوله: {إِلَّا
اللَّهُ}، والابتداءُ بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ} وقفٌ تامّ، وإلى أن عِلم بعض المتشابه
مختص بالله تعالى، وأنّ من حاول معرفته، هو الذي أشار إليه في الحديث
بقوله: "فاحذروهم". انتهى (?)، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: ذكر الإمام البخاري -رحمه الله- في "صحيحه" عن سعيد بن جبير قال
رجل (?) لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إني أجد في القرآن أشياء تختلف
عليّ، قال: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، وقال:
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)} [الصافات: 27]، {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}
[النساء: 42]، {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، فقد كتموا في هذه الآية،
وقال: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا}] إلى قوله: {دَحَاهَا} [النازعات: 27 - 30]، فذكر خلق
السماء قبل خلق الأرض، ثم قال: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ}
إلى {طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء،
قال: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمً} [النساء: 96]، {عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56]، {سَمِيعًا
بَصِيرًا} [النساء: 58]، فكانه كان ثم مضى. فقال- يعني ابن عباس-: {فَلَا