وهذا - كما قال القرطبيّ- ليس في معنى الآية في شيء، فإن قوله تعالى:
{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}؛ أي: في النظم والرَّصف، وأنه حقّ من عند الله. ومعنى
{كِتَابًا مُتَشَابِهًا}؛ أي: يُشبه بعضه بعضًا، ويُصدِّق بعضه بعضًا، وليس المراد
بقوله: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} هذا المعنى، وإنما المتشابه
في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه، من قوله: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}؛
أي: التبس علينا؛ أي: يَحتمل أنواعًا كثيرة من البقر. والمراد بالمحكم ما في
مقابلة هذا، وهو ما لا التباس فيه، ولا يَحتمل إلا وجهًا واحدًا. وقيل: إن
المتشابه: ما يحتمل وجوهًا، ثُمّ إذا ردّت الوجوه إلى وجه واحد، وأُبطل الباقي
صار المتشابه محكمًا، فالمحكم أبدًا أصلٌ تُرَدُّ إليه الفروع، والمتشابه هو الفرع.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: المحكمات هو قوله في "سورة الأنعام": {قُلْ
تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] إلى ثلاث ايات، وقوله
في "بني إسرائيل": {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:
23]، قال ابنُ عطية: وهذا عندي مثال أَعطاه في المحكمات. وقال ابن عباس
أيضًا: المحكمات: ناسخه وحرامه وفرائضه وما يُؤمَن به ويعمل به،
والمتشابه: المنسوخات ومقدَّمه ومؤخَّره وأمثاله وأقسامه، وما يؤمَن به، ولا
يعمل به. وقال ابن مسعود وغيره: المحكمات: الناسخات، والمتشابهات:
المنسوخات، وقاله قتادة والربيع والضحاك.
وقال محمد بن جعفر بن الزبير: المحكمات هي التي فيها حُجّة الرب،
وعِصْمَةُ العباد، ودَفع الْخُصُوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما
وُضِعْنَ عليه، والمتشابهات لهنّ تصريف وتحريف وتأويل، ابْتَلَى اللهُ فيهن
العباد. وقاله مجاهد، وابنُ إسحاق.
قال ابن عطية: وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية. قال النحاس: أحسنُ
ما قيل في المحكمات والمتشابهات: أن المحكمات ما كان قائمًا بنفسه، لا
يَحتاج أن يُرجَع فيه إلى غيره، نحوُ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}
[الإخلاص: 4] {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه: 82]، والمتشابهات نحو: {إِنَّ اللَّهَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] يُرجَع فيه إلى قوله جل وعلا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ
تَابَ} [طه: 82]، وإلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].