وقوله: ({وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ})؛ أي: ذو العقول الخالصة،
وهم الراسخون في العلم، الواقفون عند متشابهه، العاملون بمحكمه بما
أرشدهم الله تعالى إليه في هذه الآية الكريمة.
وقال القرطبيّ-رحمه الله-: أي: ما يقول هذا، ويؤمن، ويقف حيث وقف،
ويدَع اتّباع المتشابه إلا ذو لُبّ، وهو العقل، ولبّ كل شيء خالصُهُ، فلذلك
قيل للعقل: لبّ، و"أولو" جمع "ذو" من غير لفظه. انتهى.
وقال الإمام ابن كثير-رحمه الله-: قوله إخبارًا عنهم: إنهم {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}؛
أي: المتشابه، {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}؛ أي: الجميع من المحكم والمتشابه حقّ
وصدق، وكل واحد منهما يُصَدِّق الآخرَ، ويشهد له؛ لأن الجميع من عند الله،
وليس شيء من عند الله بمختلف، ولا متضادّ، كقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ
كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]، ولهذا قال
تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}؛ أي: إنما يَفْهَم، ويعقل ويتدبر
المعاني على وجهها أولو العقول السليمة، والفُهوم المستقيمة. انتهى (?).
وقال الإمام ابن جرير الطبريّ -رحمه الله- في "تفسيره": وأما قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ
مُحْكَمَاتٌ} فإنه يعني: من الكتاب آيات؛ يعني: بالآيات آيات القرآن، وأما
المحكمات فإنهن اللواتي قد أُحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهنّ،
وأدلتهنّ على ما جُعلن أدلة عليه من حلال، وحرام، ووعد، ووعيد، وثواب،
وعقاب، وأمْر، وزجْر، وخبر، ومَثَل، وعظة، وعِبَر، وما أشبه ذلك.
ثم وصف جل ثناؤه هؤلاء الآيات المحكمات بأنهنّ هنّ أم الكتاب؛
يعني بذلك: أنهنّ أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين، والفرائض، والحدود،
وسائر ما بالخلق إليه الحاجة، من أمر دينهم، وما كُلّفوا من الفرائض في
عاجلهم، وآجلهم.
وإنما سمّاهن أمّ الكتاب؛ لأنهن معظم الكتاب، وموضع مفزع أهله عند
الحاجة إليه، وكذلك تفعل العرب تسمي الجامع معظم الشيء أمًّا له، فتسمي راية
القوم التي تجمعهم في العساكر أمّهم، والمدبِّر معظم أمر القرية والبلدة أمها.