اللوح المحفوظ، كما دلّ عليه الكتاب، والأخبار الكثيرة الصحيحة، وكل ذلك
قد سبق به العلم الأزليّ، والقضاء الإلهيّ الذي لا يقبل التغيير، ولا التبديل،
المحيط بكل الأمور على التعيين والتفصيل، ألا ترى الملائكة كيف تستخرج ما
عند الله من علم حال النطفة، فتقول: يا رب ما الرزق؟ وما الأجل؟ فيقضي
ربك ما شاء؛ أي: يُظهر من قضائه، وحكمه للملائكة ما سبق به علمه،
وتعلّقت به إرادته. انتهى (?).
(وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ)؛ أي: السعيد من تصفّح أفعال غيره، فاقتدى
بأحسنها، وانتهى عن سيئها، فالسعيد له من غيره عظة، وفي التجارب تحكيم
ومعتبر، وقال الغزاليّ رحمه الله: المراد أن الإنسان يشاهد من خبائث من اضطر
إلى مرافقته، وأحواله، وصفاته، ما يستقبحه، فيجتنبه، وقيل لعيسى عليه السلام: من
أدّبك؛ فقال: ما أدّبني أحد، رأيت جهل الجاهل، فجانبته.
قال الغزاليّ: ولقد صدق، فلو اجتنب الناس ما يكرهونه من غيرهم،
لَكَمُلَت آدابهم، واستغنوا عن مؤدِّب. انتهى (?).
(فَأَتَى) عامر بن واثلة -رضي الله عنه- (رَجُلًا مِنْ أَصْحَاب رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُقَالُ لَهُ:
حُذَيْفَةُ بْنُ أَسِيدٍ الْغِفَارِيُّ) -رضي الله عنه- (فَحَدَّثَهُ بِذَلِكَ)؛ أيَ: بما مرّ (مِنْ قَوْلِ ابْنِ
مَسْعُودٍ) -رضي الله عنه-: "الشقيّ من شقي في بطن أمه"، (فَقَالَ) عامر: (وَكَيْفَ يَشْقَى
رَجُلٌ بِغَيْرِ عَمَلِ) لأعمال الأشقياء؛ لأنه لم يخرج إلى الدنيا، (فَقَالَ لَهُ
الرَّجُلُ)؛ أي: الَمذكور أولًا؛ لأن النكرة إذا أعيدت معرفة فهي عين الأول،
كما قال في "عقود الجمان":
ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهِرَهْ! ... إِذَا أَتَتْ نَكِرَةٌ مُكَرَّرَهْ
تَغَايَرَا وَإِنْ يُعَرفْ ثَانِ ... تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ
أي: فقال حذيفة بن أَسِيد لعامر -رضي الله عنهما-: (أتعْجَبُ) بفتح أوله وثالثه،
مضارع عَجِبَ، من باب تَعِبَ. (مِنْ ذَلِكَ؟ )؛ أي: من شقاوة الشخص في بطن
أمه، والاستفهام للإنكار؛ أي: لا تَعْجَب من ذلك، ثم ذكر دليل نهيه له،
فقال: (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ) بغير همزة