ورَوَى الترمذي، وابن ماجه، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن
أبيه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قَدَّم ثلاثة لم يبلغوا الحنث، كانوا له
حِصْنًا حَصِينًا، قال أبو ذرّ: قدّمت اثنين، قال: واثنين، فقال أبي بن كعب،
سيّد القراء: قدّمت واحدًا، قال: وواحد، ولكن إنما الصبر عند الصدمة
الأولى"، قال الترمذيّ: حسن غريب، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه (?).
ورُوي ذِكر الواحد من حديث جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- أيضًا، وهو
محمول عند العلماء على أنه -صلى الله عليه وسلم- أُوحي إليه ذلك عند سؤالهم عن الاثنين،
وعن الواحد، إن صحّ، ولا يمتنع نزول الوحي عليه في أسرع من طرفة عين،
كما في نزول قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] لمّا قام
ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله إني رجل ضرير البصر، فنزلت: {غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ} [النساء: 95] هذا، على أن العلماء يختلفون في مفهوم العدد، هل هو
حجة أم لا؟ ، فمن لم يجعله حجةً لا يحتاج إلى ذِكر هذا الجواب، ويقول:
ذِكر هذا العدد لا ينافي حصول ذلك بأقلّ منه، بل ولو جعلناه حجةً، فليس
نصًّا قاطعًا، بل دلالته دلالة ضعيفة يقدَّم عليها غيرها عند معارضتها.
وقال أبو العباس القرطبيّ بعد ذِكره نحو ما قلناه: وَيحْتَمِل أن يقال: إن
ذلك بحسب شدة وَجْد الوالدة، وقوّة صبرها، فقد لا يبعد أن يكون مَن فَقدت
واحدًا، أو اثنين أشدّ ممن فَقدت ثلاثة، أو مساوية لها، فتُلحَق بها في
درجتها.
وتعقّبه وليّ الدين، وهو تعقّب جيّد، فقال: ظاهر الحديث حَمْل ذلك
على كل فاقد اثنين، وعلى كل فاقد واحد، فالتقييد بشدّة الوَجْد الذي يُصَيِّره
كفاقد ثلاثة يحتاج إلى دليل.
وقال القاضي عياض: يَحْتَمِل أنه -صلى الله عليه وسلم- قاله ابتداءً لأتمّ الأشياء؛ لأن ثلاثًا
أول الكثرة، فأخبرهم بذلك؛ لئلا يتكل من مات له ولد على ولده في شفاعته،
وسكت عما وراءه، فلمّا سئل أعلمَ بما عنده في ذلك، قال: وفي قولها: أو
اثنان، بعد ذِكر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ذلك في الثلاثة، وهي من أهل اللسان دليل على أن