بتوفيقه، ويسّره للعمل بعلمه، بل هو كثير جارٍ في الإسلام، كما كان في
الجاهلية يذم الدهر مرةً، ويذم الزمان تارةً، وتذم الليالي والأيام مرةً، وتذم
الدنيا أيضًا، وكل ذلك لا يجوز على معنى ما وصفنا، وبالله التوفيق، إلا أن
أهل الإيمان إذا ذموا الدهر والزمان، لم يقصدوا بذلك إلا الدهر على قبيح ما
يُرى منه، كما قال حكيم من شعرائهم [من الوافر]:
يَذُمُّ النَّاسُ كُلُّهُمُ الزَّمَانَا ... وَمَا لِزَمَانِنَا عَيْبٌ سِوَانَا
نَذُمُّ زَمَانَنَا وَالْعَيْبُ فِينَا ... وَلَوْ نَطَقَ الزَّمَانُ بِنَا هَجَانَا
وقد أورد أبو عمر في "الاستذكار" هنا أشعارًا كثيرة من هذا القبيل، ثم
قال: وقد أنشدنا في "التمهيد" أشعارًا كثيرة من أشعار الجاهلية، وأشعارًا أيضًا
كثيرةً إسلاميةً، فيها ذم الزمان، وذم الدنيا، وذم الدهر، إلا أن المؤمن الموحد
العالم بالتوحيد ينزّه الله سبحانه وتعالى عن كل سوء، ينوي ذلك، ويعتقده، فإن جرى
على لسانه شيء على عادة الناس استغفر الله، وراجع الحقّ، وراضَ نفسه عن
العودة إليه، كما قال بعض الفضلاء العقلاء [من البسيط]:
يَا دَهْرُ وَيْحَكَ مَا أَبْقَيْتَ لِي أَحَدًا ... وَأَنْتَ وَالِدُ سَوْءٍ تَأْكُلُ الَوَلَدَا
أَسْتَغْفِرُ اللهَ بَلْ ذَا كُلُّهُ قَدَرٌ ... رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا وَاحِدًا صَمَدَا
لَا شَيْءَ يَبْقَى سِوَى خَيْرٍ تُقَدِّمُهُ ... مَا دَامَ مِلْكٌ لإِنْسَانٍ وَلَا خَلَدَا
والأشعار في هذا أكثر من أن يحيط بها كتاب لو أُفرد لها، وأكثر ما
يَعني المسلمُ إذا ذم دهره، ودنياه، وزمانه، خَتْل الزمان، وأهله، وسلطانه.
والأصل في هذا المعنى في الإسلام وأهله قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدنيا
ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ما كان لله، أو آوى إلى الله".
وأما أهل الجاهلية فإنهم كانوا منهم دهرية زنادقة، لا يعقلون، ولا
يعرفون الله، ولا يؤمنون، وفي قريش منهم قوم وصفهم أهل الأخبار، كَرِهتُ
ذكرهم، وقد حَكَى الله تعالى عنهم، أو عن بعضهم قولهم: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24].
قال أبو عمر: قال أئمة العلماء معنى ما ذكرنا، ثم أخرج بسنده عن
الشافعيّ قال في قول الله عز وجل: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]، وقولَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا الدهر، فإن الله عز وجل هو