بفتح الميم المشدّدة، (بِاسْمِي، وَلَا تَكْتَنُوا) تقدّم أنه رُوي: "لا تكتنوا"، من
الاكتناء وبلفظ: "لا تكنَّوا"، من التكنّي، وبلفظ: "لا تَكْنُوا" من الكُنية.
(بِكُنْيَتِي) فيه النهي عن التكنّي بكنيته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في
شرح حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - الماضي، ثمّ علّل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهيه عن التكنّي بكنيته بالفاء
التعليليّة، فقال: (فَإنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أقسِمُ بَيْنَكُمْ " المعنى: أن العلّة الموجبة للتكنية
لا توجد في غيرهَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنَّ معنى كونه قاسمًا أنه الذي يقسم المواريث،
والغنائم، والزكاة، والفيء، وغير ذلك من المقادير بالتبليغ عن الله - عَزَّوَجَلَّ -، وليس
ذلك لأحد غيره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا يُطلق هذا الاسم في الحقيقة إلَّا عليه.
وقال القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهَ -: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تسمَّوا باسمي، ولا تكتنُوا بكنيتي"؛ صدر
هذا القول عن النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرّات؛ فعلى حديث أنس - رضي الله عنه - إنما قاله حين نادى
رجل: يا أبا القاسم! فالتفت النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الرجل: لَمْ أَعْنِك، فقال النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ذلك القول، وهذه حالةٌ تنافي الاحترام، والتعزير المأمور به، فلمَّا كانت الكناية
بأبي القاسم تؤدي إلى ذلك نَهَى عنها، ويتأبَّد هذا المعنى بما نُقِل أنَّ اليهود
كانت تناديه بهذه الكناية إزراءً، ثم تقول: لَمْ أعْنك، فَحَسم الذريعة بالنَّهي.
[فإنَّ قيل]: فيلزم على هذا أن تُمنع التَّسمية بمحمد، وقد فَرَّق بينهما،
فأجازه في الاسم، ومنعه في الكناية.
[فالجواب]: أنَّه لَمْ يكن أحدٌ من الصحابة - رضي الله عنهم - يجترئ أن يناديه باسمه؛ إذ
الاسم لا توقير في النداء به، بخلاف الكناية، فإنَّ في النداء بها احترامًا وتوقيرًا،
وإنما كان يناديه باسمه أجلاف العرب، ممن لَمْ يؤمن، أو آمن، ولم يرسخ
الإيمان في قلبه؛ كالذين نادوه من وراء الحجرات: يا محمد اخرج لنا، فأنزل الله
تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)}
[الحجرات: 4]، فمُنِعت الذريعةُ فيما كانوا ينادونه به، وأبيح ما لَمْ يكونوا ينادونه
به، وعلى هذا المعنى فيكون النهي عن ذلك مخصوصًا بحياته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد ذهب
إلى ذلك بعض أهل العلم، وقد رُوي: أن عليًّا - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله! إن وُلد
لي بعدك غلامٌ أَأُسَمِّيه باسمك، وأكنِّيه بكنيتك؟ قال: "نعم" (?).