وقال القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهُ -: وإنما بدأ النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأعرابيّ؛ لأنه كان عن يمينه،
فبيَّن أن ذلك سُنَّة، ولذلك قال: "الأيمن فالأيمن"؛ أي: أَعْطِ الأيمن، وابدأ
به، وقيل: أيضًا إنه قصد استئلافه، فإنَّه كان من كبراء قومه، فلذلك جلس عن
يمينه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والأول أظهر، ولا يبعد قَصْد المعنى الثاني. انتهى (?).
وقال في "الفتح": استنبط بعضهم من تكرار الأيمن أن السُّنَّة إعطاء من
على اليمين، ثم الذي يليه، وهَلُمّ جَرًّا، ويلزم منه أن يكون عُمر في الصورة
التي وردت في هذا الحديث شَرِب بعد الأعرابيّ، ثم شرب أبو بكر بعده، لكن
الظاهر عن عُمر إيثاره أبا بكر بتقديمه عليه، والله أعلم.
[تنبيه]: ألحق بعضهم بتقديم الأيمن في المشروب تقديمه في المأكول،
ونُسب لمالك، وقال ابن عبد البرّ: لا يصحّ عنه. انتهى (?).
وقال المناويّ: قوله: "الأيمن، فالأيمن"؛ أي: ابتدأوا بالأيمن، أو
قَدِّموا الأيمن؛ يعني: مَنْ عِند اليمين في نحو الشرب، فهو منصوب، ورُوي
رفعه، وخبره محذوف؛ أي: الأيمن أحقّ، ورجّحه العينيّ بقوله في بعض طرق
الحديث: "الأيمنون، فالأيمنون"، وكَرّر لفظ "الأيمن" للتأكيد؛ إشارةً إلى نَدْب
البداءة بالأيمن، ولو مفضولًا، وحُكي عليه الاتفاق، بل قال ابن حزم: لا
يجوز مناولة غير الأيمن إلَّا بماذنه، قال ابن العربيّ: وكلّ ما يدور على جَمْع
من كتاب، أو نحوه، فإنما يدور على اليمين قياسًا على ما ذَكَره، وتقديم مَن
على اليمين ليس لمعنى فيه، بل المعنى في جهة اليمين، وهو فضْلها على جهة
اليسار، فيؤخذ منه أن ذلك ليس ترجيحًا لمن عن اليمين، بل لجهته، ولا
يعارِض هذا ما في خبر الأمر بمناولة السواك الأكبر، ولا ما ثبت في خبر
القسامة: "كَبِّر كَبِّر"، ولا قوله في حديث أبي يعلى: "كان إذا سقى قال:
ابدؤوا بالكبيرإ؛ لِحَمْله على الحالة التي يجلسون فيها متساويين بين يديه، أو
عن يساره، أو خلفه، فتُخص هذه الصورة من عموم تقديم الأيمن، أو يُخَصّ
من عموم الأمر بالبداءة بالكبير ما لو قَعَد بعض عن يمين الرئيس، وبعض عن