وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وجمعتُ حتَّى جمعتُ ما جمعت " هكذا رواه
الطبريّ، والعذريّ، وابن ماهان بـ "حتى" التي هي للغاية، وقد رواه السِّجْزيّ،
والسَّمرقندي: "حين" مكان "حتى" وا لأول أوضح، وقد سقط "وجمعت " الأوَّل
في بعض النسخ، وبسقوطه وثبوت "حتى" يَحسُن الكلام، وقد ذكره الحميديّ
في "مختصره " بلفظٍ أحسن من هذا، فقال: "وأقبلت حين جمعت ما جمعت".
قال القرطبيّ: وهذا الحديث يدلُّ على أن شُرب الخمر كان إذ ذاك
مباحًا، معمولًا به، معروفًا عندهم بحيث لا يُنكر، ولا يُغيّر، وأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أقرَّ
عليه، وعليه يدلُّ قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]؛
وقوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] وهل كان يباح لهم
شرب القَدْر الذي يُسْكِر؟ ظاهر هذا الحديث يدلّ عليه، فانَّ ما صدر عن
حمزة -رضي الله عنه- للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- من القول الجافي المخالف لِمَا يجب من احترام
النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وتوقيره، وتعزيره، يدلُّ: على أن حمزة كان قد ذهب عقله بما
يسكر، ولذلك قال الراوي: فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه ثَمِلَ، ثم إن النبي
-صلى الله عليه وسلم- لم
يُنكر على حمزة، ولا عنَّفه لا في حال سكره، ولا بعد ذلك. فكان ذلك دليلًا
على إباحة ما يُسكر عندهم، وهذا خلاف ما قاله الأصوليون وحكوه، فإنَّهم
قالوا: إن السكر حرام في كل شريعة قطعًا؛ لأن الشرائع مصالح العباد قطعًا،
لا مفاسدهم، وأصل المصالح العقل، كما أن أصل المفاسد ذهابه، فيجب
المنع من كل ما يُذهبه ويشوشه، وما ذكروه واضح، ويمكن أن ينفصل عن
حديث حمزة بأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ترك الإنكار على حمزة في حال سكره؛ لكونه لا
يعقل، وعلى إثر ذلك نزل تحريم الخمر، وأن حمزة لم يقصد بشربه السُّكر،
لكنه أسرع فيه فغلبه، والله تعالى أعلم.
ولم يقع في شيء من الصحيح أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ألزم حمزة غرامة الشارفين،
لكن روى هذا الحديث عمر بن شبَّة في كتابه، وزاد فيه من رواية أبي بكر بن
عياش: فَغَرِمهما النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن حمزة، وهذه الرواية جارية على الأصول؛ إذ لا
خلاف في أنَّ ما يُتْلِف السكران من الأموال لزمه غرمه، وعلى تقدير ألَّا تثبت
هذه الزيادة؛ فعدم النقل لا يدلّ على عدم المنقول، ولو دلَّ على ذلك لأمكن
أن يقال: إنما لم يحكم عليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بالغرامة؛ لأن عليًّا -رضي الله عنه- لم يطلبها منه،