بكلّ مراحله عند الحالة المشابهة للحالة التي شُرعت فيها، قال - رحمه الله - في كتابه "البرهان في علوم القرآن": قسَّم بعضهم النسخ من وجه آخر إلى ثلاثة أضرب ... الثالث ما أُمر به لسبب، ثم يزول السبب، كالأمر حين الضعف، والقلّة بالصبر، والمغفرة للذين لا يرجون لقاء الله ونحوه، من عدم إيجاب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد، ونحوها، ثم نَسَخها إيجاب ذلك.
قال: وهذا ليس بنسخ في الحقيقة، وإنما هو مُنْسَأ، كما قال تعالى: {أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106]، فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى، وبهذا التحقيق تبيّن ضعف ما لهج به كثير من المفسّرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف، وليس كذلك، بل هي من المنسأ، بمعنى أن كلّ أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلّة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة، حتى لا يجوز امتثاله أبدًا. انتهى كلام الزركشيّ - رحمه الله - (?)، وهو بحث نفيسٌ، خلاصته أنه ليس في آيات القتال نسخ، وإنما ينزّل كلّ آية في مواضعه المناسبة لها، فإذا كان حال المسلمين ضعيفًا استُعملت الحالة، وهي ترك القتال، وإذا كانت قويّة استعملت الأحوال الثلاثة بعدها، على اعتبار شدة القوة، وعدم شدّتها، والله تعالى أعلم.
(المسألة السادسة): في الفرق بين جهاد الدفع، وجهاد الابتداء من حيث الحكم:
أما جهاد الدفع ففرض عين، وذلك إذا هجم العدوّ على ثغور المسلمين، قال أبو بكر الجصّاص - رحمه الله - في "أحكام القرآن": ومعلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدوّ، ولم تكن فيهم مقاومة لهم، فخافوا على بلادهم وأنفسهم، وذراريهم أن الفرض على كافّة الأمة أن ينفر إليهم من يكفّ عاديتهم عن المسلمين، وهذا لا خلاف فيه بين الأمة؛ إذ ليس من قول أحد من المسلمين إباحة القعود عنهم حتى يستبيحوا دماء المسلمين،