وقال القرطبيّ - رحمه الله -: وهذا الحديث أصل من أصول الأحكام، وأعظم مرجع عند التنازع والخصام، يقتضي ألا يُحكَم لأحد بدعواه - وإن كان فاضلًا شريفًا - في حقٍّ من الحقوق - وإن كان محتقَرًا يسيرًا - حتَّى يستند المدَّعي إلى ما يقوّي دعواه، وإلا فالدَّعاوي متكافئة، والأصل: براءة الذمم من الحقوق، فلا بدَّ مما يدلّ على تعلُّق الحق بالذمَّة، وتترجَّحُ به الدعوى. انتهى (?).

[تنبيهان]:

(الأوّل): الحكمة في كون البينة على المدعِي، واليمين على المدعَى عليه، هو ما بيّنه النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو يُعطَى الناس بدعواهم لادَّعَى ناس دماء رجال، وأموالهم".

وقال العلماء: الحكمة في ذلك أن جانب المدعِي ضعيف؛ لأنه يقول خلاف الظاهر، فكُلّف الحجة القوية، وهي البينة؛ لأنها لا تجلُب لنفسها نفعًا، ولا تدفع عنها ضررًا، فيقوى بها ضَعف المدعِي، وجانب المدعَى عليه قويّ؛ لأنَّ الأصل فراغ ذمته، فاكتُفي منه باليمين، وهي حجة ضعيفة؛ لأنَّ الحالف يجلب لنفسه النفع، ويدفع الضرر، فكان ذلك في غاية الحكمة.

(الثاني): اختَلَف الفقهاء في تعريف المدّعِي، والمدّعَى عليه، والمشهور فيه تعريفان:

[الأول]: المدعِي: من يخالف قولُه الظاهرَ، والمدعَى عليه بخلافه.

[والثاني]: المدعِي: من إذا سكت تُرك وسكوتَهُ، والمدعَى عليه: من لا يُخَلَّى إذا سكت، والأول أشهر، والثاني أسلم، وقد أُورد على الأوّل: أن المودَع إذا ادّعى الردّ، أو التلَف، فإن دعواه تخالف الظاهر، ومع ذلك فالقول قوله، وقيل في تعريفهما غير ذلك. قاله في "الفتح" (?)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015