ابن عبّاس -رضي الله عنهما- أن الصحابة اختلفوا في ذلك، فقال بعضهم: "أهجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ "، ولم يصرّح بأن قائله عمر، وحينئذ فهذا الكلام يَحْتَمل وجوهًا:
(منها): ما ذكره العلامة الشيخ عبد العزيز المحدّث الدهلويّ -رحمه الله- في كتابه الفارسيّ المعروف بـ "التحفة الاثنا عشريّة" ص 453 أن هذا الكلام قاله الذين كانوا يحبون أن يكتب لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكتاب، وكان استفهامهم هذا للإنكار، وأرادوا أننا يجب علينا الامتثال بما أمر به النبيّ -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لا يهجر في كلامه، وإنما هو مُجِدّ في أمره بالكتابة، فكأنهم خاطبوا عمر، ومن وافقه بقولهم: أهجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في زعمكم؟ حيث لا تمتثلون أمره، والمراد أنه لم يهجر، وأمره هذا جدّ.
وحينئذ فلا إشكال على أحد، فإنه لم ينسب أحد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الهذيان، وإنما كان ذلك استفهامًا للإنكار.
(ومنها): أن يكون هذا من كلام عمر، أو أحد ممن وافقه، والمراد:
استفهموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هل أمره هذا جدّ وعزيمة؟ أو أنه جرى على لسانه في شدّة المرض، كما يجري على ألسنة المرضى كلام لا عزيمة فيه؟ وإنما قالوا ذلك لأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لا يمتنع عليه المرض، ولا آثاره وعلائمه، وكان إذ ذاك في شدّة الوجع، ولا يمكن لنا أن نتصوّر مدى اضطراب الصحابة في ذلك الوقت، وكان من أهمّ المهمّات عند الصحابة حينئذ أن يزول عنه ذلك الوجع، ولا يلحقه تعب يفضي إلى ازدياد فيه، وكانوا في جانب آخر مستيقنين بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقصّر في أداء الرسالة، وتبليغ الأمانة، وكانوا في جانب ثالث يعرفون أن كتابة غير القرآن مما لا يستحسنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا في الضرورة الشديدة؛ لئلا يلتبس بالقرآن، فلو زعم منهم زاعم في هذه الأحوال أن أمره بالكتابة في هذا المرض الشديد ليس عزيمة، فأراد أن يستفهمه، هل هو من عزائم الأمور، أو هو شيء جرى على لسانه دون جدّ أو عزيمة؟ فإنه ليس من سوء الأدب في جانبه -صلى الله عليه وسلم- في شيء، وإنما هو من الاضطراب الطبيعيّ الذي ابتلي به الصحابة -رضي الله عنهم- في ذلك الحين الشديد.
(ومنها): أن يكون الهجر في هذا الكلام بمعنى الفراق، لا بمعنى