ثم إن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عاش بعد هذه الواقعة نحوًا من أربعة أيام؛ لأن واقعة القرطاس وقعت يوم الخميس، وتوفّي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين، فلو كان الشيء الذي أراد كتابته وصيّة واجبة عليه لأوصى به في هذه الأيام، وقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- هذه الأيام عدّة أحكام، وقد ثبت في عدّة روايات خفّة مرضه -صلى الله عليه وسلم- خلال هذه المدّة، فلو كانت الكتابة شيئًا لا تستغني عنه الأمة لَمَا تركها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وإن كان الحال هو الثاني، ولم يكن الشيء المقصود بالكتابة شيئًا جديدًا، يبلغه إلى الأمة، وإنما كان تأكيدًا لِمَا بيّنه من قبلُ، فلا سبيل إلى الطعن فيمن خالف الكتابة؛ لشدّة وجعه -صلى الله عليه وسلم-، فإنهم لم يفوّتوا الأمة شيئًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

فتبيّن من هذا أن ما قصده النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إما أن يكون تأكيدًا محضًا لِمَا بيّنه من قبلُ، ولذلك تركه؛ اعتمادًا على بيانه السابق، أو كان شيئًا لا يجب عليه تبليغه، وإنما أراد بيانه؛ شفقةً على الأمة، ثم بدا له باجتهاده، أو بوحي من الله تعالى أن ترك كتابته أولى، فتركه، ولا يُتصوّر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يمنعه بعض أصحابه عن إبداء ما فيه خير وصلاح للمسلمين.

الجواب عن الطعن الثالث:

وأما الطعن الثالث، فإنما هو مجرّد دعوى لا سبيل للاستدلال عليه، ومن أين علم هؤلاء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يريد أن يكتب الخلافة لعليّ -رضي الله عنه-؟ ولئن كان يريد ذلك لَمَا منعه الثقلان عنه، وكيف يمسك عن إظهار هذا الحقّ بمجرّد مخالفة عمر -رضي الله عنه-؟ أفكان -والعياذ بالله- يخاف عمر بن الخطّاب؟ وهو الذي لم يخف عمر، ولا أحدًا أقوى منه، ولا أشجع في حالة كفره، فكيف يخافه بعد إسلامه؟ أفلا يرى هؤلاء الطاعنون أن طعنهم هذا ليس طعنًا في عمر -رضي الله عنه- فحسب، وإنما هو طعن في تبليغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي رسالته، وفي شجاعته، وهكذا الشحناء تُعمي أبصار الرجال، والعصبيّة تجعل الرجل لا يعرف ما يقول.

ولئن كان المقصود بهذه الكتابة استخلاف أحد لكان المقصود كتابة الخلافة لأبي بكر الصدّيق -رضي الله عنه- قطعًا، فإنه هو الذي استخلفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في

طور بواسطة نورين ميديا © 2015