رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كذب أبو السنابل، حللتِ، فانكحي من شئتِ"، فقد كذّب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هذا الذي أفتى بهذا، وأبو السنابل لم يكن من أهل الاجتهاد، وما كان له أن يفتي بهذا مع حضور النبيّ -صلى الله عليه وسلم-.
وأما عليّ، وابن عبّاس -رضي الله عنهم-، وإن كانا أفتيا بذلك، لكن كان ذلك عن اجتهاد، وكان ذلك بعد موت النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن بلغهما قصّة سُبيعة، وهكذا سائر أهل الاجتهاد من الصحابة -رضي الله عنهم- إذا اجتهدوا، فأفتوا، وقضَوا، وحَكموا بأمر، والسُّنة بخلافه، ولم تبلغهم السُّنَّة كانوا مثابين على اجتهادهم".
ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يعاتب أحدًا ممن امتنع عن الكتابة، ولم يعاتبه، سوى أن قال: "قوموا عنّي"، مع أنه قد عاقب في مرض وفاته أهل البيت الذين لَدُّوه -صلى الله عليه وسلم- زعمًا منهم بأنه مبتلى بذات الجنب، فلم يكتف -صلى الله عليه وسلم- بمعاتبتهم في ذلك قولًا، وإنما عاقبهم جميعًا بأن يُلدّوا إلا العبّاس -رضي الله عنه-، فإنه لم يشهدهم حين لدّوه، والقصّة مشهورة في "الصحيحين"، وغيرهما، فلو كان الامتناع عن الكتابة في ذلك الوقت معصيةً أو ذنبًا، لَمَا تركهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون عتاب، أو عقاب.
الجواب عن الطعن الثاني:
وأما الطعن الثاني: فالجواب عنه أن الأمر الذي أراد النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كتابته في ذلك الوقت لا يخلو من حالين: إما أن يكون شيئًا تحتم عليه تبليغه، وُيخشى بجهله الضلال على الأمة قطعًا، وإما أن يكون تاكيدًا لِمَا بلّغه في الماضي، فأراد أن يكتبه؛ ليكون أبقى أثرًا.
فإن كان الحال هو الأول، فلا يمكن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يترك تبليغ ما أُمر بتبليغه لمنع المانعين، أو مخالفة بعض المخالفين، فإن المعهود منه -صلى الله عليه وسلم- أنه بلّغ كلّ ما أُمر به، ولو على قيمة نفسه، وماله، ووطنه، فكيف يترك بيان ما تضلّ الأمة بغيره؛ لمجرّد أن بعض الصحابة منعوه من ذلك؟ .
وقال الإمام البيهقيّ -رحمه الله- في أواخر كتابه "دلائل النبوّة": ولو كان مراده -صلى الله عليه وسلم- أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم، ولا لغيره؛ لقوله تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة: 67]، كما لم يترك تبليغ غير ذلك؛ لمخالفة من خالفه، ومعاداة من عاداه، حكاه النوويّ: -رحمه الله-.