يكتبها في ذلك الوقت لم تكن في شيء من أمر الخلافة، وإنما كانت تأكيد أحكام الصلاة، والزكاة، والعبيد، والإماء، وأمثالها.
وأما الجواب التحقيقيّ عن الطعن الأول، فإن عمر -رضي الله عنه-، ومن وافقه لم يُخالفوا أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معصيةً منهم أو عنادًا، وحاشاهم عن ذلك، وإنما قصدوا أن لا يلحق النبيّ -صلى الله عليه وسلم- تعبٌ في هذه الحالة الشديدة من المرض، وقد صَرَّح ابن عبّاس -رضي الله عنهما- في أول هذا الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اشتَدّ وجعه في ذلك اليوم، وإنما اجتمع أصحابه وأهل بيته لعيادته وتمريضه، وكم يقع مثل ذلك لرجل مريض يشتدّ مرضه، فيجتمع حوله أهل بيته، ويريد أن يفعل شيئًا، فيمنعه أهل البيت من ذلك؛ مخافة اشتداد مرضه، فلا يَفهم أحد أنهم يعاندونه، أو يعصونه، وإنما يستحسن منهم مثل هذا في مثل ذلك الوقت؛ لأنه يدلّ على عنايتهم بأحوال المريض، وإشفاقهم عليه، واجتهادهم في صيانته عن الوقوع في المتاعب.
ثم إن عمر -رضي الله عنه- إنما فَعَل ذلك؛ لأنه كان يزعم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يموت حتى يُفني المنافقين، ويُظهر كلمة الإسلام على فارس والروم، فكان يقدّر أنه -صلى الله عليه وسلم- لو امتنع عن الكتابة في مثل هذه الشدّة لأمكن له ذلك في وقت آخر يخفّ فيه مرضه، أو يبرأ فيه تمامًا، فلم يكن في زعمه شيء يفوت الأمة لو لم يُكتب ذلك الكتاب في مثل تلك الشدّة.
ويدلّ على ذلك ما أخرجه ابن سعد في "طبقاته" (2/ 244) من طريق الواقديّ، عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما-: أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال في مرضه الذي مات فيه: "ائتوني بدواة وصحيفة، أكتب لكم كتابًا لن تضلّوا بعده أبدًا"، فقال عمر بن الخطاب: من لفلانة وفلانة مدائن الروم؟ إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس بميت حتى نفتحها.
وقد ثبت في غير رواية أنه -رضي الله عنه- لم يعترف بوفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى قال: لن يموت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يفني المنافقين، كما في "طبقات ابن سعد" (2/ 267)، وقال من الغد: كنت أرجو أن يعيش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يُدبرنا، يريد بذلك أن يكون آخرنا، كما رواه البخاريّ في "الأحكام".
فهذا كلّه يدلّ على أن عمر -رضي الله عنه- لم يخطر بباله أبدًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-