ومما احتجّ به أصحاب مالك فيما ذهبوا إليه من ردّ حديث جابر هذا أن قالوا: هو حديث منسوخ، ولم يصحبه العمل، وقال بعضهم: لعل حامله وَهِمَ.

قال ابن عبد البرّ: ومثلُ هذا من القول لا يُعترض به الأحاديث الثابتة عند أحد من العلماء، إلا بأن يتبيّن النسخ بما لا مَدْفَع فيه.

قال الجامع: قد أجاد ابن عبد البرّ رحمه الله في هذا التعقّب، كيف يُدّعَى نسخ حديث صحيح بظنون وتخيّل، فأين الناسخ؟ إن هذا لهو العجب، وأيضًا قولهم: لم يصحبه العمل مردود بما ثبت من أنه عُمل به في المدينة، فقد قضى به طارق مولى عثمان بشهادة جابر -رضي الله عنه- بأنه -صلى الله عليه وسلم- قضى بالعمرى لصاحبها، فكتب به إلى عبد الملك بن مروان، فنفّذه، كما سيأتي عند مسلم في هذا الباب، فكيف يُدَّعَى عدم العمل؟ فتبصّر.

قال: ومما احتجوا به أيضًا ما رواه ابن القاسم وغيره عن مالك، قال: رأيت محمدًا وعبد الله ابني أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فسمعت عبدَ الله يعاتب محمدًا، ومحمد يومئذ قاض، فيقول له: ما لَكَ لا تقضي بالحديث الذي جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العمرى، حديثِ ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر؟ فيقول له محمد: يا أخي لم أجد الناس على هذا، وأباه الناس، فهو يكلمه، ومحمد يأباه، قال مالك: ليس عليه العمل، ولوددت أنه مُحِيَ (?).

ومن أحسن ما احتجوا به أن قالوا: مِلْكُ الْمُعْمِر الْمُعْطِي ثابت بإجماع قبل أن يُحْدِث العمرى، فلما أحدثها اختَلَف العلماء، فقال بعضهم: قد أزال لفظه ذلك ملكَه عن رقبة ما أعمره، وقال بعضهم: لم يزل ملكه عن رقبة ماله بهذا اللفظ، والواجب بحق النظر أن لا يزول ملكه إلا بيقين، وهو الإجماع؛ لأن الاختلاف لا يثبت به يقين، وقد ثبت أن الأعمال بالنيات، وهذا الرجل لم ينو بلفظه ذلك إخراج شيء عن ملكه، وقد اشترط فيه شرطًا فهو على شرطه؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المسلمون على شروطهم".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015