إليه، كما قررناه، ولا يصح حمل هذا النهي على التحريم؛ لأنَّه قد قال في الرِّواية الأخرى: "العمرى جائزة لمن وهبت له"؛ أي: عطيَّةٌ جائزةٌ، ولأنها من أبواب البر، والمعروف، والرفق، فلا يمنع منه، وقول ابن عباس: لا تحِلُّ العُمْرى ولا الرُّقْبى؛ محمول على ذلك، فإنه قال إثر ذلك: فمن أعمر شيئًا فهو له، ومن أرقب شيئًا فهو له، فقد جعلهما طريقين للتملك، فلو كان عقدهما حرامًا كسائر العقود المحرَّمة لأمر بفسخهما.
وأمَّا قوله: "فهي للذي أعمرها حيًّا وميتًا"؛ فيعني بذلك: إذا قال: هي لك ولعقبك؛ فإنَّه ينتفع بها في حياته، ثم ينتقل نفعها إلى عقبه بعد موته، وهذه الرواية وإن وقعت هنا مطلقة؛ فهي مقيدة بالروايات الآخر التي ذكر فيها العقب، لا سيما والرَّاوي واحد، والقضية واحدة، فيُحمل المطلق فيها على المقيَّد قولًا واحدًا، كما قررناه في الأصول.
وقوله: إنما العمرى التي أجاز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: هي لك ولعقبك؛ أي: أمض جوازها وألزمه دائمًا على ما ذكرناه.
وقوله: "وأمَّا إذا قال: فهي لك ما عشت"، فإنها ترجع إلى صاحبها، فإن كان من قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فهو نصٌّ، فيما اخترناه، وإن كان من قول الرَّاوي؛ فهو أقعد بالحال، وأعلم بالمقال (?).
قال الجامع: قد أجاد القرطبيّ رحمه الله في الجمع بين هذه الروايات، فبهذا يتبيّن أنه لا اضطراب بينها، وأن بعضها مفسّر لبعضها، فتكون على معنى واحد، فدعواه الاضطراب، وضَعْف الثقة بالحديث الذي ذكره في أول كلامه مما لا معنى له، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: القائلون: بأن العمرى تمليك الرقبة؛ فرَّقوا بينها وبين السُّكنى، فلو قال: أسكنتك حياتك، فإذا مات رجعت إلى صاحبها، إلا الشَّعبي، فإنه سوَّى بينهما، وقال في السَّكنى: لا ترجع إلى صاحبها بوجه، وهو شاذٌّ لا يعضده نظر، ولا خبر، فإن العمرى عند القائلين: بأنها تمليك الرَّقبة، خارجة في القياس، وإنما صاروا إليه من جهة ظواهر الأخبار، فلا تقاس السُّكنى