ومنافعها، وتميّز بين مفاسدها ومضارّها، مع اختلاف أشكالها، وصُوَرها، إذ منها ما يمشي على بطنه، ومنها ما يمشي على أربع، ومنها ما يطير بجناحيه، ثم خصّ الله تعالى من بين سائر الحيوان نوع الإنسان الذي هو المقصود الأول من الكونين، والمعنيّ في العالمين بهذا القلب المخصوص المشتمل على هذا المعنى المخصوص الذي به تميَّز الإنسان، ووقع بينه وبين سائر الحيوان الفرقان، وهو المعنى الذي به يفهم القلب المفهومات، ويحصل به على معرفة الكلّيّات والجزئيّات، ويعرف به فَرقَ ما بين الواجبات، والجائزات، والمستحيلات، وقد أضاف الله تعالى العقل إلى القلب، كما أضاف السمع إلى الأذن، والإبصار إلى العين، فقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]، وهو ردّ على من قال من أهل الضلال: إن العقل في الدماغ، وهو قول من زلّ عن الصواب، وزاغ، كيف لا، وقد أخبرنا عن محلّه خالقه القدير: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14] وقد روي ذلك عن أبي حنيفة، وما أظنّها عنه معروفة.
وإذا فهمت أن الإنسان إنما شرّفه الله تعالى على سائر الحيوان بهذا القلب، وأن هذا القلب لم يَشْرُف من حيث صورته الشكليّة، فإنها موجودة لغيره من الحيوانات البهيميّة، بل من حيث هو مقرّ لتلك الخاصيّة الإلهيّة، علمت أنه أشرف الأعضاء، وأعزّ الأجزاء؛ إذ ليس ذلك المعنى موجودًا في شيء منها.
ثم إن الجوارح مسخّرةٌ له، ومطيعة، فما استقرّ فيه ظهر عليها، وعملت على مقتضاه، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرّ، وعند هذا انكشف لك معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه"، ولمّا ظهر ذلك وجبت العناية بالأمور التي يصلح بها القلب؛ ليتّصف بها، وبالأمور التي تفسد القلب؛ ليتجنّبها، ومجموع ذلك علومٌ، وأعمالٌ، وأحوال:
فالعلوم ثلاثة:
[الأول]: العلم بالله تعالى، وصفاته، وأسمائه، وتصديق رسله فيما جاؤوا به.