إلحاق القرابة القريبة المحرمة بالأب المنصوص عليه في الحديث، ولا أقرب للرجل من أبيه؛ فيحمل على الأب، والأخ يقاربه في ذلك؛ لأنه يُدْلِي بالأبوَّة، فإنه يقول: أنا ابن أبيه.
وأما القول الثالث: فمتعلقه الحديث الثابت في ذلك؛ الذي خرَّجه أبو داود، والترمذيّ من طرق متعددة، وأحسن طرقه: ما خرَّجه النسائيّ في كتابه من حديث ضمرة، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن مَلَك ذا رَحِم محرم، فقد عتق".
قال القرطبيّ: وهذا الحديث ثابت بنقل العدل عن العدل، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بعلة توجب تركه، غير أن بعضهم قال: تفرد به ضمرة، وهذا لا يُلتفت إليه؛ لأن ضمرة عدل، ثقة، وانفراد الثقة بالحديث لا يضره على ما مهَّدناه في الأصول، فلا ينبني أن يعدل عن هذا الحديث، بل: يجب العمل به لصحته سندًا، ولشهادة الكتاب له معنى، وذلك: أن الله - عز وجل - قد قال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]، وليس من الإحسان إلى الأبوين، ولا للقرابة استرقاقهم، فإن نفس الاسترقاق، وبقاء اليد على المسترق إذلال له وإهانة، ولذلك فسخنا على النصرانيّ شراءه للمسلم على رواية، ولم نُبق ملكه عليه في الأخرى، وإذا ثبت أن بقاء الملك إذلال، وإهانة؛ وجبت إزالته ورفعه عن الآباء والقرابة؛ لأنه نقيض الإحسان؛ الذي أمر الله به.
فإن قيل: فهذا يلزم في القرابات كلّهم وإن بَعُدوا؛ قلنا: هذا يلزم من مطلق القرآن، لكن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد خصَّ بعض القرابات بقوله: "من ملك ذا رحم محرم"، فوصفه بالمحرمية، فمن ليس كذلك لا تتضمنه الآية، ولا الحديث، والله أعلم.
قال: ثم حيث قلنا بوجوب العتق، فهل بنفس الملك، أو يوقف ذلك على حكم الحاكم؟ قولان عندنا، والأول أولى؛ لظاهر الحديث، ولأنه قد جاء من حديث الحسن عن سمرة: "من ملك ذا رحم محرم فهو حر"، وهذا اللفظ يكاد أن يكون نصًّا في الفرض، ولأن بقاء الأب تحت يد الملك إلى أن ينظر الحاكم؛ فيه إذلال يناقض الإحسان المأمور به، فيجب وقوع العتق مقارنًا للملك، وإنما صار إلى إبقائه على الحكم في القول الثاني للاختلاف الذي في أصل المسألة.