أبو حنيفة، والثوريّ، وأحمد؛ لقول ابن عبّاس - رضي الله عنهما - في حديثه: ففرّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وفي حديث عويمر - رضي الله عنه -، قال: "كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وهذا يقتضي إمكان إمساكها، وأنه وقع طلاقه، ولو كانت الفرقة وقعت قبل ذلك، لما وقع طلاقه، ولا أمكنه إمساكها، ولأن سبب هذه الفرقة يَقِفُ على الحاكم، فالفرقة المتعلّقة به لا تقع إلا بحكم الحاكم، كفرقة الْعُنّة.
وذهبت طائفة إلى أن الفرقة تحصل بمجرّد التعانهما، وبه قال مالكٌ، وأبو عبيد، وأبو ثور، وداود، وزفر، وابن المنذر، وروي ذلك عن ابن عبّاس؛ لِمَا روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "المتلاعنان يُفرّق بينهما، ولا يجتمعان أبدًا"، رواه سعيد بن منصور، ولأنه معنى يقتضي التحريم المؤيّد، فلم يقف على حكم الحاكم كالرضاع، ولأن الفرقة لو لم تحصل إلا بتفريق الحاكم، لساغ ترك التفريق إذا كرهاه؛ كالتفريق للعيب، وللإعسار، وَلَوَجب أن الحاكم إذا لم يُفرّق بينهما أن يبقى النكاح مستمرًّا، وقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا سبيل لك عليها" يدلّ على هذا، وتفريقه بينهما بمعنى إعلامه لهما بحصول الفرقة، وعلى كلتا الروايتين لا تحصل الفرقة قبل تمام اللعان منهما.
وقال الشافعيّ رحمه الله: تحصل الفرقة بقول الزوج وحده، وإن لم تلتعن المرأة؛ لأنها فرقة حاصلة بالقول، فتحصل بقول الزوج وحده، كالطلاق، قال ابن قدامة: ولا نعلم أحدًا وافق الشافعيّ على هذا القول، وحُكي عن الْبَتّيّ أنه لا يتعلّق باللعان فرقةٌ؛ لِمَا روي أن العجلانيّ لَمّا لاعن امرأته طلّقها ثلاثًا، فأنفذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو وقعت الفرقة لَمَا نفذ طلاقه.
قال ابن قدامة: وكلا القولين لا يصحّ؛ لأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فرّق بين المتلاعنين، رواه عبد الله بن عمر، وسهل بن سعد، وأخرجهما مسلم، وقال سهل بن سعد: "فكانت سنّة لمن كان بعدهما أن يفرّق بين المتلاعنين"، وقال عمر - رضي الله عنه -: "المتلاعنان يُفرّق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدًا"، وأما القول الآخر فلا يصحّ؛ لأن الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين، ولا يكونان متلاعنين بلعان أحدهما، وإنما فرّق النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بينهما بعد تمام اللعان منهما، فالقول بوقوع الفرقة قبله تحكّمٌ، يخالف مدلول السنّة، وفعل النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. انتهى