القرطبيّ: وهذا أشبهها، وأحسنها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): اختلفوا في جواز تطليقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي وقع فيها الطلاق والرجعة، وفيه للشافعيّة وجهان، أصحّهما المنع، وبه قطع المتولّي، وهو الذي يقتضيه ظاهر الزيادة التي في الحديث، وعبارة الغزاليّ في "الوسيط"، وتبعه مجلي: هل يجوز أن يطلّق في هذا الطهر؟ وجهان، وكلام المالكيّة يقتضي أن التأخير مستحبّ، وقال ابن تيميّة في "المحرّر": ولا يُطلّقها في الطهر المتعقّب له، فإنه بدعةٌ، وعنه - أي: عن أحمد - جواز ذلك، وفي كتب الحنفيّة عن أبي حنيفة الجواز، وعن أبي يوسف ومحمد المنع.
ووجه الجواز أن التحريم إنما كان لأجل الحيض، فإذا طهرت زال موجب التحريم، فجاز طلاقها في هذا الطهر، كما يجوز في الطهر الذي بعده، وكما يجوز طلاقها في الطهر إن لم يتقدّم طلاق في الحيض.
ومن حجج المانعين أنه لو طلّقها عقب تلك الحيضة كان قد راجعها ليطلّقها، وهذا عكس مقصود الرجعة، فإنها شُرعت لإيواء المرأة، ولهذا سماها إمساكًا، فأمره أن يمسكها في ذلك الطهر، وأن لا يطلّق فيه حتى تحيض حيضةً أخرى، ثم تطهر؛ لتكون الرجعة للإمساك، لا للطلاق، ويؤيّد ذلك أن الشارع أكّد هذا المعنى حيث أمر بأن يمسكها في الطهر الذي يلي الحيض الذي طلّقها فيه؛ لقوله في رواية عبد الحميد بن جعفر: "مره أن يراجعها، فإذا طهرت أمسكها، حتى إذا طهرت أخرى، فإن شاء طلّقها، وإن شاء أمسكها"، فإذا كان قد أمره بأن يمسكها في ذلك الطهر، فكيف يُبيح له أن يطلّقها فيه؟ وقد ثبت النهي عن الطلاق في طهر جامعها فيه، ذكره في "الفتح" (?).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذكر من الأدلّة أن الأرجح قول من قال بمنع الطلاق في الطهر الذي يلي الحيضة التي وقع فيها الطلاق؛ لمخالفته الأمر بإمساكها في ذلك الطهر بنصّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا طهرت أمسكها حتى إذا طهرت أخرى" إلخ، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.