قال الحافظ: والحاصل أن النفي إنما هو حيث تجرّد الأمر، وأما إذا وُجدت قرينة تدلّ على أن الأمر الأول أمر المأمور الأول أن يبلّغ المأمور الثاني فلا، وينبغي أن ينزّل كلام الفريقين على هذا التفصيل، فيرتفع الخلاف.

ومنهم من فرّق بين الأمرين، فقال: إن كان الآمر الأول بحيث يسوغ له الحكم على المأمور الثاني، فهو آمرٌ له، وإلا فلا، وهذا قويّ، وهو مستفاد من الدليل الذي استدلّ به ابن الحاجب على النفي؛ لأنه لا يكون متعدّيًا إلا إذا أمر من لا حكم له عليه؛ لئلا يصير متصرّفًا في ملك غيره بغير إذنه، والشارع حاكمٌ على الآمر والمأمور، فوجد فيه سلطان التكليف على الفريقين، ومنه قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} الآية [طه: 132]، فإن كلّ أحد يفهم منه أمر الله لأهل بيته بالصلاة، ومثله حديث الباب، فإن عمر - رضي الله عنه - إنما استفتى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ليمتثل ما يأمره به، ويُلزم ابنه به، فمن مثّل بهذا الحديث لهذه المسألة فهو غالطٌ؛ فإن القرينة واضحةٌ في أن عمر في هذه الكائنة كان مأمورًا بالتبليغ، ولهذا وقع في رواية أيوب، عن نافع: "فأمره أن يراجعها"، وفي رواية أنس بن سيرين، ويونس بن جُبير، وطاوس، عن ابن عمر، وفي رواية الزهريّ، عن سالم: "فليُراجعها"، وفي رواية لمسلم: "فراجعها عبد الله كما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، وفي رواية أبي الزبير، عن ابن عمر: "ليراجعها"، وفي رواية الليث، عن نافع، عن ابن عمر: "فإن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمرني بهذا".

وقد اقتضى كلام سليم الرازيّ في"التقريب" أنه يجب على الثاني الفعل جزمًا، وإنما الخلاف في تسميته آمرًا، فرجع الخلاف عنده لفظيًّا.

وقال الفخر الرازيّ في "المحصول": الحقّ أن الله تعالى إذا قال لزيد: أوجبتُ على عمرو كذا، وقال لعمرو: كلّ ما أوجب عليك زيدٌ، فهو واجبٌ عليك، كان الأمر بالأمر أمرًا بالشيء. انتهى.

قال الحافظ: وهذا يمكن أن يؤخذ منه التفرقة بين الأمر الصادر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن غيره، فمهما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحدًا أن يأمر به غيره وجب؛ لأن الله تعالى أوجب طاعته، وهو أوجب طاعة أميره، كما ثبت في "الصحيح": "من أطاعني، فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني"، وأما غيره ممن بعده فلا، وفيهم تظهر صورة التعدّي التي أشار إليها ابن الحاجب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015