ومعنى قوله: "حيث تقاسموا على الكفر": تحالفوا، وتعاهدوا عليه، وهو
تحالفهم على إخراج النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وبني هاشم، وبني المطلب من مكة إلى هذا
الشعب، وهو خيف بني كنانة، وكتبوا بينهم الصحيفة المشهورة، وكتبوا أنواعًا
من الباطل، وقطيعة الرحم والكفر، فأرسل الله تعالى عليها الأَرَضَة فأكلت كل
ما فيها من كفر، وقطيعة رحم وباطل، وتركت ما فيها من ذكر الله تعالى،
فأخبر جبرائيل عليه السلام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فأخبر به النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عمه أبا طالب، فجاء
إليهم أبو طالب، فأخبرهم عنه -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فوجدوه كما أخبر، والقصة
مشهورة، وهذا يقتضي أنه -صلى الله عليه وسلم- فعل النزول هناك قصدًا؛ لهذه المصلحة الدينية،
وهو الشكر لله تعالى على إظهار الدين، ودحض الكفر، وإعلاء كلمة الله
تعالى، وإتمام نعمته على المسلمين، وقد تقدم كلام المحبّ الطبريّ في ذلك،
وقال النوويّ: قال بعض العلماء: كان نزوله -صلى الله عليه وسلم- هناك شكرًا لله تعالى على
الظهور بعد الاختفاء، وعلى إظهار دين الله تعالى. انتهى كلام وليّ
الدين رحمه الله (?)، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من ذكر الأقوال، وأدلّتها في
هذه المسألة أن الأرجح القول بأن نزوله -صلى الله عليه وسلم- بالمحصّب كان قصدًا؛ شكرًا لله
تعالى، فينبغي للحجاج نزوله؛ اقتداء بالنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وحرصًا على اتّباع السنّة،
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم النزول بالمحصّب:
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: ذهب أكثر العلماء إلى أنه يستحب للحاجّ
إذا فرغ من الرمي، ونَفَر من منى أن يأتي المحصَّب، وينزل به، ويصلي به
الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويبيت به ليلة الرابع عشر، وفي "صحيح
البخاريّ" وغيره، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر والعصر
والمغرب والعشاء، ثم رَقَدَ رَقْدَة بالمحصَّب، ثم ركب إلى البيت، فطاف به،
وفي "صحيح مسلم"، عن نافع، أن ابن عمر كان يرى التحصيب سنةً، وكان
يصلي الظهر يوم النفر بالحصبة، قال نافع: قد حصب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والخلفاء