وحينئذ فنزول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- به يَحْتَمِل أن يكون جرى اتفاقًا لا عن قصد، كغيره من
منازل الحجّ، ويَحْتَمِل أنه مقصود، لكن لمصلحة دنيوية، ويؤيد الاحتمال الأول
حديث أبي رافع المتقدم، فإنه ذكر فيه أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يأمره بذلك، ويؤيد الاحتمال
الثاني قول عائشة -رضي الله عنها- إنه -صلى الله عليه وسلم- إنما نزله؛ لكونه أسمح لخروجه، فدلّ على أنه
قصد ذلك لهذا المعنى، لا لكونه قربة، ويدلّ على أن النزول فيه كان بالقصد
حديثُ أبي هريرة -رضي الله عنه-، وهو في "الصحيحين" قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الغد
يومَ النحر، وهو بمنى: "نحن نازلون غدًا بخيف كنانة، حيث تقاسموا على
الكفر"، وفي "صحيح البخاريّ" أيضًا عن أسامة بن زيد، قال: قلت: يا
رسول الله أين تنزل؟ وذلك في حجته، قال: "وهل تَرَكَ لنا عَقِيل منزلًا؟ نحن
نازلون غدًا بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر"، يعني بذلك المحصَّب.
وحينئذ فنحتاج إلى الجواب عن حديث أبي رافع.
وقد يجاب عنه بأنه إنما نَفَى أمر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- له بذلك، ولعله بلغه كلام
النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أو سمع كلامه، ففعل ذلك بغير أمره، أو وُفِّق لما أراده النبيّ -صلى الله عليه وسلم-
من غير أن يأمره به، وأيضًا، فإنه إنما نَفَى أمره بذلك حين خروجه من منى،
فلعله أمره بذلك في وقت آخر، وهذا بعيد.
[فإن قلت]: ففي رواية أخرى للبخاريّ من حديث أبي هريرة: "منزلنا -
إن شاء الله- إذا فتح الله الخيفُ، حيث تقاسموا على الكفر"، وهذه تدلّ على
أنه قاله في الفتح، وذكر البخاريّ في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أيضًا أن ذلك كان
حين أراد النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حنينًا، فهذه تقتضي أن المراد نصره في حنين، لا في
الفتح، وفي رواية للبخاريّ في حديث أسامة -رضي الله عنه-: "منزلنا -إن شاء الله- إذا
فتح الله الخيفُ".
[قلت]: قد جَمَع بينها المحبّ الطبريّ رحمه الله بأن ذلك جرى منه -صلى الله عليه وسلم-
مرّات، فقال: تكرر منه هذا القول في استقبال فتح مكة، وهو أول أوقات غلبة
دين الله تعالى على الكفر، وتنكيس رأس الكفر بها، ثم قاله حين أراد غزو
هوازن بحنين، ثم قاله في حجة الوداع، وقال ذلك في الأوقات المذكورة؛
شكرًا لله تعالى، وإظهارًا للدين، وحكم الإسلام، حيث تقاسموا على الكفر،
وحيث أظهروا الكفر. انتهى.