لا خلاف أنه يقدّم الزكاة والحجّ على التطوّع بالجهاد، كما قال عبد الله بن عمرو بن العاص: حجة قبل الغزو أفضل من عشر غزوات، وغزوة بعد حجة أفضل من عشر حجات، ورُوي مرفوعًا من وجوه في أسانيدها مقال (?).
فتبيَّن بهذا التقرير أن الأحاديث كلّها دالّةٌ على أن أفضل الأعمال الشهادتان مع توابعهما، وهي بقيّة مباني الإسلام، أو الصلاة مع توابعها أيضًا من فراض الأعيان التي هي من حقوق الله - عَزَّ وَجَلَّ -، ثم يلي ذلك في الفضل حقوق العباد التي هي من فروض الأعيان، كبرّ الوالدين، ثم بعد ذلك التطوّع المقرّبة إلى الله، وأفضلها الجهاد.
وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - تأخير الحجِّ على الجهاد، ولعله إنما ذكره بعد الجهاد حيث كان تطوّعًا، فإن الصحيح أن فرضه تأخّر إلى عام الوفود.
وقد يقال: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - دلّ أن جنس الجهاد أشرف من جنس الحجّ، فإن عَرَضَ للحجّ وصف يمتاز به على الجهاد، وهو كونه فرض عين كان ذلك الحجّ المخصوص أفضل من الجهاد، وإلا فالجهاد أفضل منه.
فهذه الثلاثة المذكورة في هذا الحديث هي رأس الإسلام، وعموده، وذِروة سنامه، كما في حديث معاذ لبه، فرأسه الشهادتان، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، والجهاد أفضل ما تُطُوّع به من الأعمال على ما دلّت عليه النصوص الصحيحة الكثيرة، وهو مذهب الإمام أحمد.
وفي "الصحيحين" عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أفضل الناس مؤمن آخذٌ بعِنَان فرسه في سبيل الله، ثم رجلٌ يعتزل في شِعْبٍ من الشعاب يعبد ربّه، ويَدَعُ الناس من شرّه".
فهذا نصّ في أن المجاهد أفضل من المتخلّي لنوافل العبادات من الصلاة وغير ذلك.
فأما النصوص التي جاءت بتفضيل الذكر على الجهاد، وغيره من الأعمال، وأن الذاكرين لله هم أفضل الناس عند الله مطلقًا، فالمراد بذلك أهل الذكر الكثير المستدام في أغلب الأوقات، وليس الذكر مما يَقطع عن غيره من