وفي حديث آخر: "الدين خمس لا يقبل الله منهنّ شيئًا دون شيء" (?)، فذكر مباني الخمس، وأن من أتى ببعضها دون بعض لَمْ يُقبل منه.
ونفي القبول هنا بمعنى نفي الرضا بذلك، واستكمال الثواب عليه، وحينئذ فذكر بعض المباني مشعر بالباقي منها، فكأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وتارةً يكتفي في جواب من سأله عن أفضل الأعمال بالشهادتين، وتارة بالصلاة، ومراده في كلا الجوابين سائر المباني، لكنه خصّ بالذكر أشرفها، فكأنه قال: الشهادتان، وتوابعهما، والصلاة، وتوابعها ولوازمها، وهو بقيّة المباني الخمس، ويشهد لهذا قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلَّا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم"، فتوهّم طائفةٌ من الصحابة أن مراده أن مجرّد هذه الكلمة يعصم الدم حتى توقّفوا في قتال من منع الزكاة حتى بيّن لهم أبو بكر - رضي الله عنه -، ورجع الصحابة - رضي الله عنهم - إلى قوله: إن المراد الكلمتان بحقوقهما ولوازمهما، وهو الإتيان ببقيّة مباني الإسلام، وقد تبيّن صحّة قولهم بروايات أُخر تصرّح بإضافة إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة إلى الشهادتين في شرط عصمة الدم، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قال: لا إله إلَّا الله لَمْ تمسّه النار - أو دخل الجنّة"، إنما أراد الشهادتين بلوازمهما وتوابعهما، وهو الإتيان ببقيّة أركان الإسلام ومبانيه.
وفي حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قَدّم برّ الوالدين على الجهاد إشارة إلى أن حقوق العباد اللازمة التي هي من فروض الأعيان تُقدَّم على التطوّع بالجهاد، وحديث أبي هريرة وأبي ذرّ فيهما اقتران الجهاد بالإيمان، لكنه في حديث أبي هريرة جعله بعد الإيمان، وجعل بعده الحجَّ المبرور، فيحتمل أن يقال: كان ذلك في زمان كان الجهاد فيه فرض عين، فكان مقدمًا على الحجّ، ويحتمل أن يقال: فُهم دخول الحجِّ من ذكر الإيمان بالله ورسوله؛ لأن ذلك يتبعه بقيّة مباني الإسلام، ومنها الحجّ، ولا سيّما وقد تقرّر في أول الكتاب أن الإيمان قول وعمل، ويكون المراد بالجهاد الجهاد المتطوَّع، وهذا أشبه بقواعد الشريعة، فإن من معه مالٌ، وعليه زكاة، أو حجّ، وأراد التطوّع بالجهاد، فإنه