مسلمًا ذكر أن الخطبة كانت ببطن الوادي قبل إتيان الموقف، والشافعيّ ذكر
أنها بعد إتيان عرفة، وحديث مسلم أصحّ، ويترجّح بوجه معقول، وهو أن
المؤذّنين قد أُمروا بالإنصات كما أُمر به سائر الناس، وكيف يؤذّن من قد أُمر
بالإنصات، ثم لا يبقى للخطبة معنى؛ إذ يفوت المقصود منها أكثرَ الناس؛
لاشتغالهم بالأذان عن استماعها.
قال البيهقيّ رحمهُ اللهُ: وهذا التفصيل في ابتداء بلال بالأذان، وأخذ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-
في الخطبة الثانية، ففرغ من الخطبة، وبلالٌ من الأذان مما تفرّد به ابن أبي
يحيى -أي: وهو ضعيف-.
ثم ذكر الطبريّ رواية الملا من سيرته، وذكرناها مع كلامه عليها قبل
ذلك، ثم قال الطبريّ: وقال مالك: إن شاءِ يؤذّن، والإمام يخطب، وإن شاء
يؤذّن بعد الفراغ من الخطبة، وقال مرّة أخرى: إذا فرغ الإمام من الخطبة ابتدأ
بالأذان، ثم بالإقامة، ثم بالصلاة.
قال ابن حزم: وهذا القول الثاني عن مالك هو الصحيح الذي لا يجوز
تعدّيه، لصحّته عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبه نأخذ؛ اقتداءً برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا خير
في مخالفته.
قال الجامع عفا الله عنه: ما أحسن قول ابن حزم رحمهُ اللهُ هذا؛ فإن واجب
كلّ مسلم التمسّك بما صحّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يسع أحدًا مخالفته بسبب
مخالفة إمامه له، فإن الإمام لا يخالفه قصدًا، بل لعدم بلوغه إليه، فهو معذور،
وأما أتباعه فلا عذر لهم بعدما تبيّنت لهم السنة، وقامت عليهم الحجة، فليتنبّه
المقلّدون لهذه الدقائق، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[تنبيه]: قال الطبريّ رحمهُ اللهُ: وجمعه -صلى الله عليه وسلم- بالناس بعرفة دليل على جواز
الجمع في السفر القصير؛ إذ لم يُنقل عن أحد من أهل مكة التخلّف عن الصلاة
معه -صلى الله عليه وسلم-، فإن الجمع بعلّة النسك، وفي المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بعلّة
أصل السفر، والثاني أنه بعلّة السفر الطويل، والثالث أنه بعلّة النسك، وقال في
موضع آخر: قد اختلف أصحابنا، هل كان جمعه -صلى الله عليه وسلم- بعلّة مطلق السفر، أو
الطويل، أو بعلّة النسك؟ والظاهر أنه بعلّة النسك، حتى يجوز للآفاقيّ
والمكيّ، وأهل المزدلفة، وعرفة، وعلى الأول لا يجوز لأهل عرفة، وعلى