ذلك يوم القيامة: هل بلّغكم محمد -صلى الله عليه وسلم- جميع ما أُمر أن يبلِّغ إليكم؟ كما
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ} الآية
[المائدة: 67]؛ أي: إن لم تُبلّغ الجميع {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} لأنك كتمت شيئًا
مما أُنزل إليك، فما بلّغت جميع ما أنزل إليك، والفاء في قوله: (فَمَا أَنْتُمْ
قَائِلُونَ؟ ") تدلّ على هذا المحذوف؛ أي: إذا كان الأمر على هذا، فبأيّ شيء
تجيبون؟ ومن ثَمّ طابق جوابهم السؤال، فأتوا بالألفاظ الجامعة حيث (قَالُوا:
نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ) ما أنزل إليك (وَأَدَّيْتَ) ما كان عليك (وَنَصَحْتَ) أي:
وزدت على ذلك بما نصحتنا من السنن والآداب وغير ذلك.
(فَقَالَ) أي: أشار -صلى الله عليه وسلم-، ففيه إطلاق القول على الفعل (بِإِصْبَعِهِ) تقدّم أنها
عشر لغات، وهي تثليث الهمزة، مع تثليث الباء الموحّدة، والعاشرة أُصبوع،
بوزن عصفور، وأفصحها كسر الهمزة، مع فتح الموحّدة، وقوله: (السَّبَّابَةِ)
بالجرّ بدلٌ، أو عطف بيان لـ "إِصْبَعه"، وهي الإصبع التي تلي الإبهام، سُمّيت
سبّابةٌ؛ لأنها يشار بها عند السبّ، وقوله: (يَرْفَغهَا إِلَى السَّمَاءِ) في محلّ نصب
على الحال من فاعل "قال"؛ أي: رافعًا إياها، أو من السبّابة؛ أي: مرفوعةً.
وقال القرطبيّ: قوله: "يرفعها إلى السَّماء ... إلخ" هذه الإشارة منه -صلى الله عليه وسلم-
إمَّا إلى السماء؛ لأنها قبلة الدعاء، وأما لعلوّ الله تعالى المعنوي؛ لأن الله
تعالى لا يحويه مكان، ولا يختص بجهةٍ. وقد بيّن ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قول القرطبيّ هذا فيه نظر لا يخفى، أولًا قوله:
إن السماء قبلة الدعاء، من أين له هذا؟ فإن القبلة للدعاء هي القبلة للصلاة،
فإنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يدعو امشقبل القبلة، ولم يثبت أنه كان يستقبل
السماء، فتبصّر.
وثانيًا قوله: ولا يختص بجهة، مخالف للنصوص الكثيرة الدالّة على
أنه سبحانه وتعالى في جهة العلو، كقوله تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وقوله:
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار،
وعمل النهار قبل عمل الليل" الحديث، "ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم،