وقولها: (مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ) أي: في جوف الليل، فـ "من" بمعنى "في"،
وفي رواية الإسماعيليّ: "من آخر الليل"، وهي أوفق لبقية الروايات، وظاهرها
أنها أتت إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -لَخيم، وسيأتي قولها: "فلقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو مُصعِدٌ
من مكة، وأنا منهبطةٌ عليها، أو أنا مُصعِدةُ، وهو منهبط منها"، والجمع بينهما
واضح، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى -.
قال عياض: قوله في رواية القاسم، يعني هذه: "فجئنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
وهو في منزله، فقال: فهل فرغتِ؛ قلت: نعم، فآذن بالرحيل"، وفي رواية
الأسود، عن عائشة، يعني الآتية في هذا الباب بلفظ: "فلقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
وهو مُصْعِد من مكة، وأنا منهبطة، أو أنا مُصعِدةٌ وهو منهبطٌ منها"، وفي رواية
صفية بنت شيبة عنها، يعني الآتية أيضاً: "فأقبلنا حتى أتيناه، وهو بالحصبة"،
وهذا موافق لرواية القاسم، وهما موافقان لحديث أنس - رضي الله عنه - عند البخاريّ:
"أنه - صلى الله عليه وسلم - رَقَدَ رَقْدَةً بالمحصب، ثم ركب إلى البيت، فطاف به".
قال: وفي حديث الباب من الإشكال قوله: "فمَرّ بالبيت، فطاف به"،
بعد أن قال لعائشة: "أفرغتِ؟ قالت: نعم"، مع قولها في الرواية الأخرى: إنه
توجه لطواف الوداع، وهي راجعة إلى المنزل الذي كان به، قال: فيَحْتَمِل أنه
أعاد طواف الوداع؛ لأن منزله كان بالأبطح، وهو بأعلى مكة، وخروجه من
مكة إنما كان من أسفلها، فكأنه لما توجّه طالباً للمدينة، اجتاز بالمسجد؛
ليخرج من أسفل مكة، فكَرَّر الطواف؛ ليكون آخر عهده بالبيت. انتهى.
وتعقّبه الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ-، فقال: والقاضي في هذا معذورٌ؛ لأنه لم يشاهد
تلك الأماكن، فظَنّ أن الذي يقصد الخروج إلى المدينة من أسفل مكة يتحتم
عليه المرور بالمسجد، وليس كذلك كما شاهده من عاينه، بل الراحل من منزله
بالأبطح يمر مجتازاً من ظاهر مكة إلى حيث مقصده، من جهة المدينة، ولا
يحتاج إلى المرور بالمسجد، ولا يدخل إلى البلد أصلاً.
قال عياض: وقد وقع في رواية الأصيليّ في البخاريّ: "فخرج
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن طاف بالبيت"، قال: فلم تذكر أنه أعاد الطواف، فيَحْتَمِل
أن طوافه هو طواف الوداع، وأن لقاءه لعائشة - رضي الله عنها - كان حين انتقَلَ من
المحصب، كما عند عبد الرزاق، أنه كَرِهَ أن يقتدي الناس بإناخته بالبطحاء،