جمهور أصحاب أبي حنيفة، ولا نصّ لأبي حنيفة في ذلك.
واحتجّ لهم بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وهذا أمر، والأمر يقتضي الفور، وبحديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: "من أراد الحجِّ فليعجل"، وبالحديث الآخر: "من لَمْ يمنعه من الحجِّ حاجة، أو مرضٌ حابسٌ، أو سلطان جائرٌ، فليمت إن شاء يهوديًّا، أو نصرانيًّا"، ولأنها عبادة تجب الكفّارة بإفسادها، فوجبت على الفور كالصوم، ولأنها عبادة تتعلّق بقطع مسافة بعيدة كالجهاد، ولأنه إذا لزمه الحجِّ، وأخّره، إما أن تقولوا: يموت عاصيًا، وإما غير عاص، فإن قلتم: ليس بعاص خرج الحجِّ عن كونه واجبًا، وإن قلتم: عاصٍ، فإما أن تقولوا: عصى بالموت، أو بالتأخير، ولا يجوز أن يعصي بالموت؛ إذ لا صُنْعَ له فيه، فثبت أنه بالتأخير، فدلّ على وجوبه على الفور.
واحتجّ الأولون القائلون بالتراخي بأن فريضة الحجِّ نزلت بعد الهجرة، وفتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكّة في رمضان سنة ثمان، وانصرف عنها في شوّال من سنته، واستخلف عتّاب بن أَسِيد، فاقام للناس الحجِّ سنة ثمان، بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقيمًا بالمدينة هو، وأزواجه، وعامّة أصحابه، ثم غزا غزوة تبوك في سنة تسع، وانصرف عنها قبل الحجِّ، فبعث أبا بكر - رضي الله عنه -، فأقام للناس الحجِّ سنة تسع، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأزواجه، وعامّة أصحابه قادرون على الحجِّ، غير مشتغلين بقتال، ولا غيره، ثمّ حجّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأزواجه، وأصحابه كلّهم سنة عشر، فدلّ على جواز تأخيره. هذا دليل الشافعيّ، وجمهور أصحابه.
قال البيهقيّ: وهذا الذي ذكره الشافعيّ مأخوذ من الأخبار، قال: فأما نزول فرض الحجِّ بعد الهجرة، فكما قال.
واستدلّ أصحابنا له بحديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه -، قال: وقف عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحُدَيبية، ورأسي يَتَهافَت قملًا، فقال: "يؤذيك هوامّك؟ "، قلت: نعم يا رسول الله، قال أبو داود: فقال: "قد آذاك هوامّ رأسك؟ "، قال: نعم، قال: "فاحلق رأسك"، قال: ففيّ نزلت هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} الآية، رواه الشيخان. فثبت بهذا الحديث أن قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} الآية نزلت سنة