(المسألة الرابعة): في بيان حكم الاعتكاف:
قال الإمام ابن المنذر - رَحِمَهُ اللهُ -: أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف سنة، لا يجب على الناس فرضًا إلَّا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرًا، فيجب عليه، ومما يدلُّ على أنه سنةٌ فعلُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ومداومته عليه تقربًا إلى الله تعالى وطلبًا لثوابه واعتكاف أزواجه معه وبعده. ويدلّ على أنه غير واجب أن أصحابه لَمْ يعتكفوا، ولا أمَرهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا من أراده، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من أراد أن يعتكف، فليعتكف العشر الأواخر"، ولو كان واجبًا لَمَا عَلّقه بالإرادة، وأما إذا نذره فيلزمه؛ لقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "من نذر أن يطيع الله فليطعه"، رواه البخاريّ، وعن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "أوف بنذرك"، متّفقٌ عليه (?).
قال الجامع عفا الله عنه: قد عُلم بما سبق أن الاعتكاف سنةٌ، وليس بواجب إلَّا بالنذر، وهذا مجمع عليه، وأقوى دليل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أراد أن يعتكف فليعتكف العشر الأواخر"، فجعله إلى إرادة الشخص، وهذا شان الاستحباب لا الوجوب، فتنبّه والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في اشتراط المسجد للاعتكاف:
قال الإمام البخاريّ - رَحِمَهُ اللهُ - في "صحيحه": "باب الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكاف في المساجد كلّها"، قال في "الفتح": أي مشروطية المسجد له من غير تخصيص بمسجد دون مسجد؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} الآية [البقرة: 187]، ووجه الدلالة من الآية أنه لو صح في غير المسجد لَمْ يختص تحريم المباشرة به؛ لأن الجماع مناف للاعتكاف بالإجماع، فعُلم من ذكر المساجد أن المراد أن الاعتكاف لا يكون إلَّا فيها، ونَقَل ابن المنذر - رَحِمَهُ اللهُ - الإجماع على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع، ورَوَى الطبري وغيره من طريق قتادة، في سبب نزول الآية: كانوا إذا اعتكفوا،