فأبو حنيفة يوجبها على الإطلاق، وداود يُسقطها في ذلك، ومالك يوجبها في عروض التجارة، وفي الديون تفصيل يعرف في كتب الفقه، وسيأتي حجة كل فريق في تضاعيف الكلام. انتهى كلام القرطبيّ رحمه اللهُ (?).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله القرطبيّ من إيجاب الإمام أبي حنيفة الزكاة في الديون على الإطلاق، ليس كما قال، بل في مذهبه تفصيل، فليُرجَع لكتب مذهبه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في السنة التي فُرضت فيها الزكاة:
ذهب الأكثرون إلى أنّ فرضيتها وقع بعد الهجرة، فقيل: كان في السنة الثانية، قبل فرض رمضان، أشار إليه النوويّ في "باب السير" من كتابه "الروضة". وجزم ابن الأثير في "التاريخ" بأن ذلك كان في السنة التاسعة. وهذا -كما قال الحافظ- فيه نظر، فقد ثبت في حديث ضمام بن ثعلبة، وفي حديث وفد عبد القيس، وفي عدّة أحاديث ذكر الزكاة، وكذا مخاطبة أبي سفيان مع هرقل، وكانت في أول السابعة، وقال فيها: "يأمرنا بالزكاة"، لكن يمكن تأويل كلّ ذلك، كما سيأتي في آخر الكلام.
وقوّى بعضهم ما ذهب إليه ابن الأثير بما وقع في قصّة ثعلبة بن حاطب المطوّلة، ففيها: "لما أنزلت آية الصدقة بعث النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عاملًا، فقال: ما هذه إلا جزية، أو أخت الجزية". والجزية إنما وجبت في التاسعة، فتكون الزكاة في التاسعة. لكن الحديث ضعيف، لا يُحتجّ به.
وادّعَى ابن خزيمة في "صحيحه" أن فرضها كان قبل الهجرة، واحتجّ بما أخرجه من حديث أم سلمة في قصّة هجرتهم إلى الحبشة، وفيها أن جعفر بن أبي طالب، قال للنجاشيّ في جملة ما أخبره به عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "ويأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصيام". انتهى.
قال الحافظ: وفي استدلالة بذلك نظرٌ؛ لأن الصلوات الخمس لم تكن فُرضت بعدُ، ولا صيام رمضان، فيحتمل أن تكون مراجعة جعفر لم تكن في أول ما قدم على النجاشيّ، وإنما أخبره بذلك بعد مدّة، قد وقع فيها ما ذكر،