الخطب الجليل، فالواجب أوّلًا تعيين المقام؛ لأن بيده زمام حكم الكلام، ولا ارتياب أن أمارات الساعة وأشراطها من عظائم الشؤون، وجلائل الخطوب، فيجب حينئذ تأويل القرينتين، أعني قوله: "أن تلد الأمة ربتها"، وقوله: "وأن ترى الْحُفاة الْعُراةَ - إلى قوله -: يتطاولون في البنيان" بما ينبئ عن ذلك النبإ العظيم من تغيير الزمان، وانقلاب أحوال الناس، بحيث لم يُشاهَد قبله، ولم يُرَ مثلُهُ، وكيف ولفظة "تَرَى" تنبئ عن ذلك؛ لأنها من الخطاب العامّ على الاستغراق، كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12]، يعني بلغ الخطب في العظم والفخامة بحيث لا يختصّ برؤية راءٍ واحدٍ، بل كلّ من يتأتّى منه الرؤية فهو مخاطبٌ به.

فإذا تقرّر بيان اقتضاء المقام، فنَثْنِي العِنَانَ إلى بيان الأساليب التي يُستعان بها على تطبيق القرينتين على ما يقتضيه المقام، من المطابقة المعنويّة، والكناية الزبديّة، والإدماج المسمّى بإشارة النصّ.

فنقول: القرينة الثانية دلّت بالكناية الزبديّة التي لا يُنظر فيها إلى مفردات التركيب، لا حقيقةً، ولا مجازًا، بل تؤخذ الزبدة والخلاصة من المجموع على أن الأذلّة من الناس ينقلبون أعزّةً، ملوك الأرض، فينبغي أن تُؤَوَّل القرينة السابقة بما يقابلها؛ ليطابقا في أن يصير الأعزّة أذلّةً، ومعلوم أن الأمّ مربّيةٌ للولد، ومدبّرةُ أمره، فإذا صار الولد ربًّا، ومالكًا لها، لا سيّما إذا كانت بنتًا ينقلب الأمر، هذا هو الْمَعْنِيّ بالتشديد والمبالغة الموعود بهما، ثم وضع الأمة، ووصفها بالولادة موضع الأمّ إشعارٌ بمعنى الاسترقاق والاستيلاء، وأن أولئك الضَّعَفَةَ الأذلّةَ الذين فُهِموا من القرينة الثانية هم الذين يتعدّون، ويتسلّطون، ويفتحون البلاد، ويسترقّون كرائم النساء، وَشَرَائِفَهُنَّ، وَيسْتَوْلدوهنَّ، فتلد الأمة ربّتها.

فالحاصل أن قوله: "أن تَلِدَ الأمة ربتها" دلَّ بعبارته على المقصود، وبإشارته على معنى آخر، وهو كثرة المستولدات، وإنما وصف النساء بالشرف والكرامة؛ ليفيد المعنى المقصود، وكان الواقع كذلك، ألا ترى إلى الملكة حُرَقة بنت النعمان حين سُبيت، وأُحضرت بين يدي سعد بن أبي وقّاص - رضي الله عنه - كيف أنشدت [من الطويل]:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015