ولئن سلّمنا ذلك جدلاً، لكنا نقول: يحصل بهما تخويف العقلاء من وجوه متعدّدة، أوضحها أن ذلك مذكّر بالكسوفات التي تكون بين يدي الساعة، ويُمكن أن يكون ذلك الكسوف منها، ولذلك قام - صلى الله عليه وسلم - فَزِعاً يخشى أن تقوم الساعة، وكيف لا؟ وقد قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)} [القيامة: 7 - 9]، قال أهل التفسير: جمع بينهما في إذهاب نورهما، وقيل غير ذلك.
وأيضأ فإن كلّ ما في هذا العالم علويّه وسُفليّه دليلٌ على نفوذ قدرة الله، وتمام قهره واستغنائه، وعدم مبالاته، وذلك كله يوجب عند العلماء بالله خوفه وخشيته، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وخصّ هنا خسوفهما بالتخويف؛ لأنهما أمران علويّان نادران طارئان عظيمان، والنادر العظيم مخوّف موجعٌ بخلاف ما يكثر وقوعه، فإنه لا يحصل منه ذلك غالباً، وأيضًا فَلِمَا وقع فيهما من الغلط الكثير للأمم التي كانت تعبدهما، ولمَا وَقَعَ للجهّال من اعتقاد تأثيرهما. انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ- (?).
(وَإِنَّهُمَا لَا يَنْخَسِفَانِ) بفتح أوله، ويجوز الضمّ، وحكى ابن الصلاح منعه (?). (لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ) إنما قال - صلى الله عليه وسلم - هذا ردًّا عليهم حيث قالوا: كَسَفَت الشمس لموت إبراهيم ابن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، كما سيأتي في الروايات الآتية.
وقال النوويّ -رَحِمَهُ اللهُ-: قال العلماء: والحكمة في هذا الكلام أن بعض الجاهلية الضُّلال كانوا يعظمون الشمس والقمر، فبيّن - صلى الله عليه وسلم - أنهما آيتان مخلوقتان لله تعالى، لا صنع لهما، بل هما كسائر المخلوقات، يطرأ عليهما النقص والتغير كغيرهما، وكان بعض الضلال من المنجِّمين وغيرهم يقول: لا ينكسفان إلا لموت عظيم، أو نحو ذلك، فبيّن أن هذا باطل لا يُغْتَرّ بأقوالهم، لا سيما وقد صادف موت إبراهيم - رضي الله عنه -. انتهى (?).
[تنبيه]: قال في "الفتح": استُشكلت قوله: "ولا لحياته"؛ لأن السياق إنما ورد في حقّ من ظنّ أن ذلك لموت إبراهيم، ولم يذكروا الحياة.