وَقَدْ ظَهَرَ لِلْعَبْدِ الضَّعِيفِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ إنَّمَا لَمْ يُوَافِقُوا الْأُصُولِيِّينَ عَلَى ذَلِكَ لِمَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي جَعْلِهِ شَرْطَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا هُوَ لُزُومُ الْإِيصَاءِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعَدَمُهُ وَالْفَقِيرُ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ فَلِهَذَا جَعَلُوا الْقُدْرَةَ مِنْ شَرَائِطِ أَصْلِ الْوُجُوبِ وَلَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا وَقَوْلُ الْمُحَقِّقِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ شَرْطُ الْوُجُوبِ لَا نَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ خِلَافَهُ مُرَادُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَإِلَّا فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى خِلَافِهِ وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ فَلَا يَتَأَتَّى بَحْثُهُ الْمَذْكُورُ فِي الْفَقِيرِ كَمَا لَا يَخْفَى وَأَطْلَقَ فِي الزَّادِ فَأَفَادَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ كُلِّ إنْسَانٍ مَا يَصِحُّ بِهِ بَدَنُهُ وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ وَالرَّاحِلَةُ فِي اللُّغَةِ الْمَرْكَبُ مِنْ الْإِبِلِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَهِيَ فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى غَيْرِ الرَّاحِلَةِ مِنْ بَغْلٍ أَوْ حِمَارٍ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَمْ أَرَهُ صَرِيحًا وَإِنَّمَا صَرَّحُوا بِالْكَرَاهِيَةِ وَيُعْتَبَرُ فِي حَقِّ كُلِّ إنْسَانٍ مَا يُبَلِّغُهُ فَمَنْ قَدَرَ عَلَى رَأْسِ زَامِلَةٍ وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عُرْفِنَا رَاكِبٌ مُقَتَّبٌ وَأَمْكَنَهُ السَّفَرُ عَلَيْهِ وَجَبَ وَإِلَّا بَانَ كَانَ مُتَرَفِّهًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى شِقِّ مَحْمِلٍ وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عُرْفِنَا مَحَارَةٌ أَوْ مُوهِيَةٌ وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَكْتَرِيَ عَقَبَةً لَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي جَمِيعِ الطَّرِيقِ وَهُوَ الشَّرْطُ سَوَاءٌ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ، أَوْ لَا وَالْعَقَبَةُ أَنْ يَكْتَرِيَ اثْنَانِ رَاحِلَةً يَتَعَقَّبَانِ عَلَيْهَا يَرْكَبُ أَحَدُهُمَا مَرْحَلَةً وَالْآخَرُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــQإذَا وَصَلَ إلَى الْمَوَاقِيتِ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ أَهْلِ مَكَّةَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرَّاحِلَةِ اهـ.
وَتَمَامُهُ فِيهِ (قَوْلُهُ: وَالْفَقِيرُ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ) أَيْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُوصِي بِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ لَهُ مِلْكُ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ لَا يُمْكِنُهُ فِيهِ الْخُرُوجُ وَالْمُعْتَبَرُ مِلْكُهُ ذَلِكَ وَقْتَ الْإِمْكَانِ كَمَا يَأْتِي وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مَسْكَنٍ وَخَادِمٍ فَيُمْكِنُهُ الْإِيصَاءُ مِنْ ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَغْنَى عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَعَلَى جَعْلِ الْقُدْرَةِ الْمَذْكُورَةِ شَرْطَ وُجُوبٍ لَا شَرْطَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِعَدَمِ أَصْلِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا جُعِلَتْ شَرْطَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَتَّى فِيهِ لُزُومُ الْإِيصَاءِ مِمَّا ذَكَرْنَا فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، تَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ: وَأَطْلَقَ فِي الزَّادِ إلَخْ) قَالَ ابْنُ الْعِمَادِيِّ فِي مَنْسَكِهِ وَهَاهُنَا فَائِدَةٌ يَنْبَغِي لِلْعَامَّةِ التَّنَبُّهُ لَهَا وَهِيَ أَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ الْمُحْدَثَةُ لِكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الثَّرْوَةِ بِرَسْمِ الْهَدِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ وَالْأَصْحَابِ لَيْسَ بِعُذْرٍ مُرَخِّصٍ لِتَأْخِيرِ الْحَجِّ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْحَوَائِجِ الشَّرْعِيَّةِ فَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْحَجِّ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ فَقَدْ مَاتَ عَاصِيًا فَالْحَذَرَ مِنْ ذَلِكَ اهـ قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ وَنَحْوُهُ لِابْنِ أَمِيرِ حَاجٍّ اهـ.
(قَوْلُهُ: وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ) قَالَ فِي الْفَتْحِ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَى مَا تَيَسَّرَ مِنْ خُبْزٍ وَجُبْنٍ دُونَ لَحْمٍ قَادِرًا عَلَى الزَّادِ بَلْ رُبَّمَا يَهْلِكُ بِمُدَاوَمَتِهِ ثَلَاثَ أَيَّامٍ مَرَضًا إذَا كَانَ مُتَرَفِّهًا مُعْتَادَ اللَّحْمِ وَالْأَطْعِمَةِ الْمُتَرَفِّهَةِ (قَوْلُهُ: لَوْ قَدَرَ عَلَى غَيْرِ الرَّاحِلَةِ إلَخْ) قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - السِّنْدِيُّ تِلْمِيذُ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْهُمَامِ فِي مَنْسَكِهِ الْكَبِيرِ وَاعْلَمْ أَنَّ مُرَادَ الْفُقَهَاءِ مِنْ الرَّاحِلَةِ الْمَرْكَبُ مِنْ الْإِبِلِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ ثُمَّ هَلْ هُوَ شَرْطٌ بِخُصُوصِهِ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الدَّوَابِّ دَاخِلٌ فِي حُكْمِهِ لَمْ أَرَ تَعَرُّضَ الْأَصْحَابِ لِذَلِكَ وَتَعَرَّضَ لَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ وَفِي مَعْنَى الرَّاحِلَةِ كُلُّ حَمُولَةٍ اُعْتِيدَ الْحَمْلُ عَلَيْهَا فِي طَرِيقِهِ أَيْ الْحَجِّ مِنْ بِرْذَوْنٍ أَوْ بَغْلٍ أَوْ حِمَارٍ وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ مِنْهُمْ هُوَ صَحِيحٌ فِيمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَرَاحِلُ يَسِيرَةٌ جَرَتْ الْعَادَةُ بِالسَّفَرِ عَلَيْهَا فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَسَافَةِ دُونَ الْمَرَاحِلِ الْبَعِيدَةِ كَأَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مَثَلًا؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْإِبِلِ لَا يَقْوَى عَلَى قَطْعِ الْمَسَافَاتِ الشَّاسِعَةِ غَالِبًا اهـ.
وَهُوَ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ جِدًّا وَلَمْ أَرَ فِي كَلَامِ أَصْحَابِنَا مَا يُخَالِفُهُ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّفْصِيلُ مُرَادَهُمْ اهـ.
(قَوْلُهُ: وَلَمْ أَرَهُ صَرِيحًا) قَالَ الشَّيْخُ إسْمَاعِيلُ قَدْ رَأَيْت وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ فِي الْمُجْتَبَى بِرَمْزِ شَرْحِ الصَّبَّاغِيِّ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِيهِ وَلَفْظُهُ وَلَوْ مَلَكَ كِرَاءَ حِمَارٍ أَوْ كِرَاءَ بَعِيرٍ عُقْبَةً فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الرَّاحِلَةِ اهـ.
لَكِنْ فِي ذَخِيرَةِ الْعَقَبِيِّ وَالرَّاحِلَةُ قِيلَ النَّاقَةُ الَّتِي تَصْلُحُ لَأَنْ تَرْحَلَ وَالْمُرَادُ هَاهُنَا الْمَرْكَبُ مُطْلَقًا اهـ.
وَقَالَ الرَّمْلِيُّ الْفِقْهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فِي الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَالْفَرَسِ إذْ هُوَ مَنُوطٌ بِالِاسْتِطَاعَةِ وَهِيَ أَعَمُّ وَاشْتِرَاطُ ذَكَرِ الْإِبِلِ أَوْ أُنْثَاهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ تَأَمَّلْ اهـ.
وَيَنْبَغِي التَّفْصِيلُ كَمَا بَحَثَهُ السِّنْدِيُّ فِي مَنْسَكِهِ الْكَبِيرِ وَهُوَ الْوُجُوبُ عِنْدَ قُرْبِ الْمَسَافَةِ بِخِلَافِ الْمَشْرِقِيِّ وَالْمَغْرِبِيِّ (قَوْلُهُ: وَيُعْتَبَرُ فِي حَقِّ كُلِّ إنْسَانٍ مَا يُبَلِّغُهُ إلَخْ) قَالَ مُنْلَا عَلِيٌّ الْقَارِي فِي شَرْحِهِ عَلَى لُبَابِ الْمَنَاسِكِ فَهُوَ إمَّا بِرُكُوبِ زَامِلَةٍ أَوْ شِقِّ مَحْمِلٍ، وَأَمَّا الْمِحَفَّةُ فَمِنْ مُبْتَدَعَاتِ الْمُتَرَفِّهَةِ فَلَيْسَ لَهَا عِبْرَةٌ اهـ.
أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِحَفَّةِ التَّخْتُ الْمَعْرُوفُ فِي زَمَانِنَا الَّذِي يُحْمَلُ عَلَى جَمَلَيْنِ أَوْ بَغْلَيْنِ لَا الْمَحَارَةُ؛ لِأَنَّهَا شِقُّ الْمَحْمِلِ كَمَا فَسَّرَهُ الْمُؤَلِّفُ، تَأَمَّلْ.
ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَ الْفُضَلَاءِ نَقَلَ عَنْ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَفِيفِ فِي شَرْحِ مَنْسَكِهِ أَنَّهُ اعْتَرَضَ كَلَامَ مُنْلَا عَلِيٍّ فَقَالَ لَا يَخْفَى مُنَابَذَتُهُ لِمَا قَرَّرُوهُ مِنْ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ كُلِّ مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ عَادَةً وَعُرْفًا إذْ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَرَفِّهِينَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّكُوبِ إلَّا فِي الْمِحَفَّةِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ فِي حَقِّهِ بِلَا ارْتِيَابٍ وَأَمَّا لَوْ قَدَرَ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ مَحْمِلٍ أَوْ رَأْسِ زَامِلَةٍ فَلَا يُعْذَرُ وَلَوْ كَانَ شَرِيفًا أَوْ وَجِيهًا أَوْ ذَا ثَرْوَةٍ اهـ.
(قَوْلُهُ: عَلَى رَأْسِ زَامِلَةٍ) قَالَ فِي السِّرَاجِ الزَّامِلَةُ الْبَعِيرُ يَحْمِلُ عَلَيْهِ