لاقى الشعر اهتمامًا كبيرًا من اللغويين واعتبروه الدعامة الأولى لهم حتى لقد تخصصت كلمة الشاهد فيما بعد وأصبحت مقصورة على الشعر فقط. ولذلك نجد كتب الشواهد لا تحوي غير الشعر ولا تهتم بما عداه.
وقد كان اللغويون يستشهدون بالشعر المجهول قائله إن صدر عن ثقة يعتمد عليه. ولذا اعتبروا الأبيات التي وردت في كتاب سيبويه أصح شواهد اعتمد عليها خلف بعد سلف مع أن فيها أبياتا عديدة جهل قائلوها1. وقد كان سيبويه يحرص على إطلاق البيت من النسبة فكان إذا استشهد ببيت لم يذكر ناظمه. وإنما امتنع سيبويه عن تسمية الشعراء "لأنه كره أن يذكر الشاعر وبعض الشعر يروي لشاعرين، وبعضه مجهول لا يعرف قائله لأنه قدم العهد به". وأما الأبيات المنسوبة في الكتاب إلى قائليها "فالنسبة حادثة بعده، اعتنى بنسبتها الجرمي. قال الجرمي: نظرت في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتًا. فأما الألف فعرفت أسماء قائليها فأثبتها، وأما خمسون فلم أعرف أسماء قائليها"2.
بل إن اللغويين والنحاة قد صرحوا بأن تعدد الروايات في البيت الواحد لا يسقط حجيتها، وأن كل رواية -ما دامت قد نقلت عن ثقة- يصح الاستشهاد بها. يقول ابن ولاد: "الرواة عن الفرزدق وغيره من الشعراء قد تغير البيت على لغتها وترويه على مذاهبها مما يوافق لغة الشاعر ويخالفها. ولذلك كثرت الروايات في البيت الواحد ... ولغة الرواة من العرب في البيت الواحد يجعل كل رواية حجة إذا رواها فصيح، لأنه يغير البيت إلى ما في لغته، فيجعل ذلك أهل العربية حجة"3.
وحديثنا عن الشاهد الشعري يجرنا إلى الحديث عن قضية "الضرورة الشعرية" أو ما يسمى "بضرورة الشعر" حينما يحاول اللغوي أو النحوي أن يستبعد البيت من مجال الاستشهاد. فما حد هذه الضرورة؟ ومتى يكون الشاعر مضطرًّا اضطرارًا يسقط حجية الاستشهاد ببيته؟ لقد اختلف النحاة في ذلك إلى فريقين: ففريق يرى -وهو جمهورهم-