وهذا هو الحسن بن الهيثم يعترف بأن الدراسة والبحث هما عمله في الحياة، وأنه ليتفق مع جالينوس في اعتبار الصدق أمرا لا ينال إلا بالجهد العلمي، وقد نبه في مقدمة كتابه "الشكوك على بطليموس" إلى أن حسن الظن بالعلماء السابقين مغروس في طبائع البشر، وأنه كثيرا ما يقود الباحث إلى الضلال، وطالب الحق عنده ليس من يستقي حقائقه من المتقدمين، بل عليه أن يشك في إعجابه بهم، ويتوصل إلى حقائق الأمور، ورغم أنه يقر في كتابه أن بطليموس رجل يشار إليه في العلوم الحقيقية ولكن وجد فيه مواضع شبهة وألفاظا بشعة ومعاني متناقضة، وهذا أوضح من التعليق.
ورغم حماسة العرب في نقل تراث الأوائل إلى لغتهم، فإن ذلك لا يمنع العقل العربي من أن يكون حرا في نقد الآثار التي تستهويه وتمحيص حقائقها والكشف عما يحتمل أن تتضمنه من زيف وبطلان مستعينا بالملاحظة والمعاينة1.
قال ابن الهيثم في كتابه "المناظر": بأن مراحل المنهج التجريبي تبدأ بملاحظة الظاهرات الجزئية الحسية وتحديد صفاتها وخصائصها، ثم يندرج في بحثه مع التمحيص والحذر من الوقوع في الخطأ حتى يبلغ اليقين، يقول ابن الهيثم: "يبدأ البحث باستقراء الموجودات وتصفح أحوال المبصرات، وتميز خواص الجزئيات ويلتقط باستقرائها ما يخص المبصر في حالة الإبصار وما هو مطرد لا يتغير، وظاهر لا يشتبه في كيفية الإحساس، ثم أرقى في البحث والمقاييس على التدرج والتدريب مع انتقاد المقدمات والتحفظ في الغلط في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نجيزه وننقده طلب الحق الذي به تثلج الصدور ونصل بالتدرج واللطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين، وتظهر مع النقد والتحفظ التي يزول معها الخلاف وتنسجم به مواد الشبهات" فهو بهذا لا يختلف عن ديكارت رغم وجود فارق زمن بينهما يصل إلى حوالي "ستة قرون".