وهذا من فضل الله ورحمته أن لا يعذب الناس إلا بعد إقامة الحجة عليهم ببعثة الرسل، قال الله تعالى: "رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ" (النساء، آية: 165)، فهذه الآية تدل دلالة صريحة على أن الحجة إنما قامت بالرسل وأنه بعد مجيئهم لا يكون للناس على الله حجة، وهذا يدل على أنه تعالى لا يعذب الناس قبل مجئ الرسل إليهم، لأن الحجة حينئذ لم تقم عليهم، فالصواب إثبات الحسن والقبح عقلاً ونفي التعذيب على ذلك إلا بعد بعثة الرسل، فالحسن والقبح العقلي لا يستلزم التعذيب، وإنما يستلزمه مخالفة المرسلين (?).
ومن الآيات الدالة دلالة صريحة على معرفة العقل حسن الأفعال وقبحها وأنها في ذاتها حسنة وقبيحة قول الله تعالى: "يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ" (الأعراف، آية: 127) وذلك لأن المعروف الذي يأمرهم به تعالى هو ما تعرفه وتقر بحسنه العقول والفطر السليمة وأن المنكر الذي ينهاهم عنه تعالى هو ما تنكره العقول والفطر السليمة وتقر بقبحه (?)، ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى في نفس الآية: "وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ"، فهذه الآية تدل دلالة صريحة في أن الحلال كان طيباً قبل حله، وأن الخبيث كان خبيثاً قبل تحريمه (?).