ثم أتى صلى الله عليه وسلم منى فأتى الجمرة ولم يبدأ بشيء قبلها، فرماها وهو على ناقته بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم أتى الحلاق وكان اسمه معمر بن عبد الله، فقال له: (قد أمكنك الله من شحمة أذن نبيه ومعك الموسى)، فحلق رأسه صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك ذهب إلى المنحر ونحر هديه صلى الله عليه وسلم، فنحر ثلاثاً وستين بيده، فكان عمره صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين، فنحر ثلاثاً وستين والإبل معقولة أيديها اليسرى، فتسابقت تقدم رقابها إليه صلوات الله وسلامه عليه، وبعد أن أتم نحرها أمر علياً بأن يكمل عنه، فأكمل عنه علي ما تبقى، وكانت مائة ناقة قدمها صلى الله عليه وسلم لنحرها.
ثم جاءته امرأة من خثعم، وهي قبيلة إلى الآن موجودة لهم مواطن وأماكن في الطريق بين الطائف إلى أبها، وكانت هذه المرأة جميلة جداً، فجاءت تسأله أن أباها رجل كبير فرض عليه الحج وهو لا يستطيع، فقالت: أأحج عنه، فقال: نعم.
فأخذ الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، كما في حديث ابن عباس، فأمال النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل ولم ينزله من راحلته.
ومن أراد أن يسوس الناس فلابد له من أن ينظر إلى الأشياء بعينين: عين شرع وعين قدر، كما ساسهم صلى الله عليه وسلم، والخير كل الخير في اتباعه.
فـ الفضل شاب أعزب وسيم، فكونه ينظر إلى النساء أمر محرم، ولكن ذلك أقرب إلى طبيعة هذا الشباب، فهذا هو القدر، والحرمة هي الشرع، فماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟ لقد أنكر عليه وأمال وجهه، فنظر للأمر بعين الشرع، أما عين القدر فهو صلى الله عليه وسلم يعلم أن هذا شاب أعزب والفتاة جميلة، فلم ينزله من الناقة ولم يعنفه ولم يسبه ولم يشتمه مراعاة لوضعه وحالته وعمره رضي الله عنه وأرضاه.
فإذا أراد الإنسان أن يسوس الناس فلينظر في كل أمر، ولذلك جاء في الإسلام التفريق بين كبر الغني وكبر الفقير؛ لأن الغني عندما يتكبر يكون لكبره وإن كان حراماً؛ لأنه ذو مال، وأما الفقير فعلى أي وجه يتكبر؟! وكذلك الزنا حرمة الله على الجميع، ولكن الزنا من الكبير في السن ليس كالزنا من الشاب، قال صلى الله عليه وسلم: (أشيمط زان وعائل مستكبر وملك كذاب)، فالملك يكره منه الكذب لأنه يحتاج إلى أن يكذب، فليس هناك أحد يخاف منه من أجل أن يكذب، ولكن عندما يكذب الخائف يكون لكذبه وجه وإن كان حراماً.
فمن أراد أن يسوس الناس فليسسهم بهدي محمد صلى الله عليه وسلم، فينظر بعين الشرع وعين القدر.