ذكر خبر رضاعته من حليمة السعدية

ثم أرضعته حليمة السعدية رضي الله عنها وأرضاها حيث قدمت إلى مكة فأخذته معها -في قصة معلومة عجيبة سنتعرض لها تفصيلاً- إلى بادية بني سعد الموجودة إلى اليوم في جنوب الطائف، فمكث في بادية بني سعد صلى الله عليه وسلم أربع سنين، وفي بادية بني سعد كانت حادثة شق الصدر الأولى.

والعلماء رحمهم الله إذا عرجوا على ذكر حليمة السعدية لا يدخلون بقلمهم في الكتاب، وإنما ينقلون ما قصته حليمة فيما نقله محمد بن إسحاق بن يسار المدني إمام أهل السير في قصة إرضاع حليمة لنبينا صلى الله عليه وسلم، ونحن لسنا أحسن من أولئك حالاً ولا أفصح منهم مقالاً، فإن تحديث حليمة بنفسها عن قصة رضاعته صلى الله عليه وسلم أبلغ من خطاب أحد غيرها، وسأذكره على وجه الإجمال.

قال ابن إسحاق: وحدثني جهم مولى الحارث بن حاطب الجمحي عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أو عمن حدثه عنه قال: كانت حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته تحدث أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر تلتمس الرضعاء، قالت: وهي في سنة شهباء لم تبق لنا شيئاً، قالت: فخرجت على أتان لي قمراء معنا شارف لنا والله ما تبض بقطرة وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا من بكائه من الجوع، ما في ثديي ما يغنيه وما في شارفنا ما يغذيه -والشارف: الناقة المسنة- وكلنا كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتاني تلك، فلقد أدمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفاً وعجفاً، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذ قيل لها: إنه يتيم؛ وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيم وما عسى أن تصنع أمه وجده؟! فكلنا نكره لذلك، فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعاً غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعاً، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، قال: لا عليك أن تفعلي عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، قالت: فذهبت إليه فأخذته، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره، قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي وشرب معه أخوه حتى روي، ثم ناما وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا رياً وشبعاً، فبتنا بخير ليلة، قالت: يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلمي -والله يا حليمة - لقد أخذت نسمة مباركة، قالت: فقلت: والله إني لأرجو ذلك، قالت: ثم خرجنا وركبت أتاني وحملته عليها معي، فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء من حمرهم حتى إن صواحبي يقلن لي: يا بنت أبي ذؤيب! ويحك أربعي علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن: بلى والله إنها لهي هي، فيقلن: والله إن لها لشأناً، قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعاً لبناً فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم؛ اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب.

فتسرح أغنامهم جياعاً -أي: تروح أغنامهم جياعاً- ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعاً لبناً، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته، وكان يشب شباباً لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاماً جفراً، قالت: فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه فينا؛ لما كنا نرى من بركته، فكلمنا أمه، وقلت لها: لو تركت بني عندي حتى يغلظ؛ فإني أخشى عليه وباء مكة، قالت: فلم نزل بها حتى ردته معنا، قالت: فرجعنا به، فوالله إنه بعد مقدمنا بأشهر مع أخيه لفي بهم لنا خلف بيوتنا إذ أتانا أخوه يشتد، فقال لي ولأبيه: ذلك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فاضطجعاه فشقا بطنه فهما يسوطانه، قالت: فخرجت أنا وأبوه نحوه، فوجدناه قائماً منتقعاً وجهه، قالت: فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا له: ما لك يا بني؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فاضطجعاني وشقا بطني، فالتمسا به شيئاً لا أدري ما هو.

قالت: فرجعنا إلى خبائنا، قالت: وقال لي أبوه: يا حليمة! لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب، فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به، قالت: فحملناه فقدمنا به على أمه، فقالت: ما أقدمك به يا ظئر -أي: يا مرضعة- وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك؟ قالت: فقلت: نعم قد بلغ الله بابني وقضيت الذي علي وتخوفت الأحداث عليه، فأديته عليك كما تحبين، قالت: ما هذا شأنك فاصدقيني خبرك، قالت: فلم تدعني حتى أخبرتها، قالت: أفتخوف عليه الشيطان؟ قالت: قلت: نعم، قالت: كلا والله، ما للشيطان عليه منه سبيل، وإن لبني لشأناً، أفلا أخبرك ما خبره؟ قالت: قلت: بلى، قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء لي به قصور بصرى من أرض الشام، ثم حملت به، فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يده بالأرض رافع رأسه إلى السماء، دعيه عنك وانطلقي راشدة.

هذا ما ذكره الإمام ابن إسحاق رحمه الله وأخذه عنه أهل العلم، والسند فيه ما فيه كما قال العلماء، ولكن الحديث أصله في صحيح مسلم؛ فإن شق الصدر ثابت في صحيح مسلم عنه صلوات الله وسلامه عليه.

والذي يعنينا من هذا المقام أن مرضعاته صلوات الله وسلامه عليه ثلاث: أمه آمنة، وثويبة جارية أبي لهب، وحليمة السعدية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015