ظَهَر قول مضاد معاكس لقول القدرية، وهو القول بالجبر، والذي يثبت أصحابه القدر بمراتبه، لكنهم سلبوا العبد قدرته واختياره، وقالوا: إنه مجبور على أفعاله، وأنه لا يقدر منها على شيء؛ لأنها مكتوبة عليه، فلا أثر لإرادته، ولا لقدرته (?)، بل هو كالريشة في مهب الريح، فليس له فعل حقيقة، وليس له تصرف حقيقة، ولا كسب حقيقة، وإنما هذه أمور مجازية، وفعل العبد هو في الحقيقة فعل الله - عز وجل -، لكن أضيف للعبد اقتراناً، ولم يضف إليه حقيقة، وأخرج بعضهم لفظ الكسب، وعللوا به (?).
وقد سبقهم إبليس فاحتج على الله بالقدر: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)} الحجر: 39، فنسب الغواية إلى الله تعالى، وأخذ أهل البدع عنه {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} الزخرف: 20، {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} النساء: 155، كما أن هؤلاء الجبرية يسمون بالقدرية المشركية؛ لأنهم شابهوا المشركين في قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} الأنعام: 148، فكانت هذه الأقوال السابقة بذرة لزرع القول بالجبر والخوض في القضاء والقدر على حسب الأهواء والآراء.