فإنْ قلتَ: المواظَبةُ دليلُ الوجوبِ.
قلتُ: هذا إذا كان مع الإِنكار على التَّرك، وأمَّا المواظَبةُ مع عَلَمِ الإِنكار على مَنْ تَرَكَهُ فهي دليلُ السُّنِّيَّة (1)، ولم يثبتْ إنكارُهُ - صلى الله عليه وسلم - على مَنْ تَركَه من الصَّحابة.
فإنْ قلتَ: لو كان سُنَّةً مؤكَّدةً لما تركه الصَّحابة (2) مع أنه لم يعتكف الخلفاءُ الأربعة.
قلتُ: إنَّما تركوا لوجهٍ آخر، وهو ما قاله الإِمام مالك: "لم يبلغني أنَّ أبا بكر وعمر وعثمان وابنَ المسيِّب، ولا أحدًا من سَلَف هذه الأمَّة Q= فإن قلت: إنَّ قوله: "قد واظب عليه" لم يُخْرِجْهُ الشيخان في صحيحيهما بهذا اللفظ، وما أخرجاه فيهما لم يذكره المصنّف العلَّام أبْقاهُ الله وأدام، قلت: المواظبةُ إنَّما تُفهم من قول عائشة رضي الله عنها: "كان يعتكف" بقرينةِ قولها: "حتى توفَّاه الله"، وهذا من قَبيل روايته بالمعنى.
(1) قوله (فهي دليل السُّنِّيَّة): واستدلَّ ابن الهُمَام في "فتح القدير" على عدم كون الاعتكاف واجبًا بتركِهِ - صلى الله عليه وسلم - في العَشْرِ الأخير بسببِ ما وَقَع من أزواجه، واعتكافه - صلى الله عليه وسلم - بدله عشرًا من شوال، واعترض عليه بحر العلوم في "رسائل الأركان" بقوله: ففيه أنَّ القضاءَ بعد الترك دليل الوجوب. قلتُ: قد مرَّ من قبل من كلام الحافظ ابن حجر أنَّ القضاء في شوال كان على سبيل الاستحباب، ولو كان على سبيل الوجوب لاعتكف معه نساؤه أيضًا في شوال، والله أعلم.
(2) قوله (لما تركه الصحابة): لأنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم كانوا أشدَّ النَّاس حِرصًا على اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما كانوا تاركي سنةً من سُنَنِهِ إلَّا ما مُنعوا عنه، فلا يُتَصَوَّر أن يتركوا الاعتكافَ مع كونِهِ سُنَّةً مؤكَّدة.