كان ذلك في عقد المهادنة والأمان العام: زال حكم الأمان عنه، فكان رضاه بَعْدُ بإرقاق نفسه لا مانع منه.
نعم؛ لو لم يرض بإسلام نفسه بَعْدَ نَبْذِ الأمان، أمكن أن يقال: يجب ردُّه إلى مأمنه؛ تتميماً في الوفاء بعهده، وكذلك لو أراد بعضهم بيع بعض أو ارتهانه، ورضي بذلك المبيع والمرتهن لجاز ذلك فيمن هو مالكٌ أمره، فإن لم يرض بذلك لم يجز، ولا يجوز شيءٌ من ذلك بحالٍ في المهادنة والأمان العام، فإن كان المبيع والمرتهن غير بالغٍ ممَّن لا يملك أمره، وهو ممن دخل تحت ذلك الأمان: فلا يجوز لأحدٍ ممن معه فيه إسلامُه في بيعٍ أو ارتهانٍ، وما أشبه ذلك، مما ينافي عقد الأمان، إلا أن يكون الذي فعل ذلك به أبوه، فقد قال مالك: إنَّ ذلك جائز، ونحو ذلك يُروى عن الثوري، ومنع من ذلك بعض أهل العلم، والأولى في النظر منعه، لأن الصغير بعد أن ثبت له التأمين لا يرتفع حُكمه إلا بإذن شرعي، وذلك إما بردِّه إلى
مأمنه، وإما بإسقاطه هو ونبذه، أنْ لو كان ممن يملك أمر نفسه، فأمَّا أن يكون ذلك بيد غيره يسقطه عنه، فلا دليل عليه، وإنما أراهم أجازوا عليه ذلك من الأب؛ لأنهم حملوا الأمر فيه -والله أعلم- على حكم الصغير في حجر أبيه، حيث يكون نظره له نافذاً عليه، وهذا هنا لا يستقيم؛ لأن نظر الأب المأذون فيه لا يتعدَّى مصلحة المال، أو ما هو شبيه المال من مصالح الأعيان، كعقد النكاح، ونحو ذلك عند من يراه، بل لو قَضَى في المال بغير السداد، وما لا مصلحة فيه البتة: فُسِخ، ولم يمض ذلك على الصغير. وأما قضاؤه على ذاته، وعينه، وإتلافهُ عليه أحكام الحرية بالإرقاق؛ فذلك لا يوجد له أصلٌ بحالٍ، وقد رُوي عن ابن القاسم قولٌ يدل على أن قضاء الأب على ابنه الصغير بمثل ذلك لا يمضي.
ولنورد الآن من المسائل المنقولة عن المالكية، ومن أمكن من غيرهم، في افتراق حُكمي الأمان: خاصاً وعاماً، على حسب ما ذكرناه، ما يكون فيه تَبَيُّنٌ بالوقوف عليه -إن شاء الله تعالى-.