وقد رُوي في ذلك أخبارٌ كثيرةٌ يطولُ تتبعها، وفي بعض ما ذكرناه منها
ما يدلُّ على ما نقصده من العرض وكشفِ الشبهة، وأدلُّ ما نقول في هذا:
إنّ هذه الأخبار التي ذكرناها أخيراً من مشاجرة عُمر لحكمِ بن هشام وأبيّ
لعبد الله بن مسعود ورجلٍ آخر، وعمرو بن العاص لآخر خالف ما لُقنه عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - وترافعهم إليه وتخاصُمِهم بحضرته واستعظامهم الأمر في ذلك، من أدلِّ الأمر على تشدد القوم في هذا الباب وتصعُّبهم وتدينهم بقراءة القرآن على ما أقرِئوا عليه من اللّفظ دون المعنى والعملِ والاجتهاد في القراءة على غلبة الظن فيها، وأنّهم كانوا لا يَرونَ وضع الآية والكلمة منه في غير الموضع الذي وُضعت فيه، وأنّهم كانوا يُحرِّمون ذلك ويأخذون أنفُسهم بترتيبه على ما أنزلَ وقراءته على ما وقفوا عليه من غير تغييرٍ ولا تبديلٍ ولا تقديمٍ ولا تأخير ولا تساهُل في القراءة بالمعنى، على كذب من ادّعى عليهم شيئاً من ذلك واستجازته وأنهم أجازُوا تقديم المؤخَّرِ وتأخير المقدّم والقراءة على المعنى والاستحسان وغالب الظن والرأي والاجتهاد، لأنّ ما يجوز فيه ذلك عندهم لا يقع فيه هذا التخاصم والتشاجر والإعظامُ له، فوجب بذلك نفيُ ما فرقوا به الصحابةَ من ذلك وأضافوه إليهم منهم.
وكيف يستجيزون ذلك، وقد علموا أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُعرَضُ عليه القرآن في كلِّ مرةً وظهرت الروايةُ بينهم بذلك، حتّى رووا أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُعرضُ عليه القرآن في كل عام مرة، حتى كان العامُ الذي توفي فيه يُعرض عليه مرّتين، قالوا: فكأنّهم يرون أنّ العرضة الأخيرة في قراءة ابن عفّان، وكلّ هذا يدلُّ على إحاطة القوم بعلم ترتيبِ القرآن على الوجه الذي رتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنّه لا يجوز أن يذهب عليهم ذلك مع تكرُّر عرضِ الرسول له في كل عام، ولا أن يتسمّحوا