* وأما القلب الآخر فهو الذي قال فيه: (وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير أبيض مثل الصفا، فلا يضره فتنة مادامت السموات والأرض) فإن الفتنة إذا قابلت القلب المؤمن فأنكرها إنكارًا يستثير له إيمانه ويستجيش له تقواه بالفزع إلى ربه، والحياء من خالقه سبحانه، كيف عرض له مثل ذلك، أو خطر في فكره، واعتذارًا من جبلته البشرية وكيف يتطرق هذا عليها، ومثله كانت حالته تلك كالانتفاض والغسل والتنقية لقلبه ولا سيما في الموضع الذي دخل على قلبه ذلك الموضع زيادة بياض فيكون أشد بياضًا من باقي القلب كله، وهكذا على هذا حتى يبيض القلب كله، فيكون كالصفا فيه سراج يزهو لا يأتيه الشيطان من جهة إلا رآه، ولا يتحرك ناهضًا إليه إلا لحظه ورأى مسالكه والأسباب التي يجعلها سلالم إلى الوصول إليه.
* وهذه الفتن فهي تعرض في العقائد والأحوال والأقوال والأفعال.
* وفي هذا الحديث من الفقه أن قلب المؤمن إذا أنكر الفتنة ودفعها بنفس الإنكار ولم يحضره حجة في وقته ذلك، بل قد كان عرف الحق معرفة شاملة، فإن ذلك يكفيه في دفع الشبهة، إلا أنه لو دفعها بالحجة لكان أفضل.
* وفيه أيضًا أن علامة القلب الأسود المرباد أنه لا ينكر منكرًا ولا يعرف معروفًا إلا ما أشرب من هواه يعني بقوله: (إلا ما أشرب من هواه) أنه لو أنكر منكرًا يومًا ما، كان لهوى يخالطه لا لله، وهذه القلوب كما أنها تصبغت ألوانها من الأشياء الطارئة عليها (201/ أ) من خارج، فكذلك يعرف ألوانها بأعمالها الصادرة عنها إلى الخارج، وقد ذكر شيخنا محمد بن يحيى رحمه الله تعالى أن يوسف الصديق حين همت به امرأة العزيز حدد النظر والاستدلال فرأى برهان ربه، وحكي عن القاضي أبي يعلي الفراء -رحمه الله- أنه أشار إلى تحديد النظر والاستدلال عند كل انتباه من نوم أو إفاقة من غفلة ونحو ذلك.