كان وحده في زمنه موحِّداً فهو أمَّةً بنفسه لاعتزالِهِ إياهم وانفراده برأيٍ يخالفُ آراءهم، ولمّا رأى بنو إسرائيل تعظيم القِبط هذه الأصنام وتبجيلهم إياها وعُكوفهم عليها وألِفوا ذلك وأنِسُوا به لطول مقامهم بينهم، ثم رأَوا قوماً من أهل الشام عاكفين على أصنامٍ لهم قالوا: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون، ولما كان النصارى معظمهم وجمهورهم أقباطا وصابئة، نزعوا إلى الأصل ومالوا إلى سنَّةِ آبائهم القديمة في اتخاذ التصاوير في بِيَعِهم وهياكل عبادتهم وبالغوا في ذلك وتفنَّنوا فيه، وربّما ترامَوا في الجهالة حتى يصوِّروا إلهَهُم والملائكةُ حوله بزعمِهم، وجميع ذلك لبقايا فيهم من سنن أوائلهم، وإن كان الأوائل يُكبِرون الإلهَ أن يدخُلَ تحت إدراكٍ عقليٍّ وحسيذٍ فضلاً عن تصوير، وإنما سهل على النصارى ذلك وأجرأهم عليه اعتقادهم الإلهية للبشر، وقد حققنا القول في ذلك في مقالاتنا عليهم.
وما زالت الملوك تُراعي بقاء هذه الآثار وتمنع من العبث فيها والعبث بها وأن كننوا أعداء لأربابها، وكانوا يفعلون ذلك لمصالح منها لتبقى تاريخا يتنبه بها على الأحقاب، ومنها أنها تكون شاهدة للكتب المنزلة فإن القرآن العظيم ذكرها وذكر أهلها ففي رؤيتها خبر الخبر وتصديق الأثر، ومنها أنها مذكرة بالصبر ومنبهة على الملل، ومنها أنها تدل على شيء من أحوال من سلف وسيرتهم وتوافر علومهم وصفاء فكرهم وغير ذلك وهذا كله مما تشتاق النفس إلى معرفته وتُؤثِر الإطِّلاع عليه، وأما في زمننا هذا فترِكَ الناسُ سُدى وسرحوا هملاً وفُوّضت إليهم شئونهم، فتحركوا بحسب أهوائهم، وجروا نحو ظنونهم وأطماعهم، وعمل كلُّ امرئٍ منهم على شاكلته وبموجب سجيته وبحسب ما تسوّل له نفسه ويدعو إليه هواه، فلمّا رأوا آثارها هائلة راعهم منظرها وظنوا ظنّ السوء بمخبرها، وكان جلّ انصراف ظنونهم إلى معشوقهم وأجلّ الأشياء في قلوبهم وهو الدينار والدرهم كما قيل.
وكل شيءٍ رآه ظنَّه قدحاً وإن رأى ظِلَّ شخصٍ ظنه الساقي، فهم يحسبون كل علمٍ يلوح لهم أنّه علم على مطلب، وكل شيء مفطور في جبل أنه يُفضي إلى كنز، وكل صنمٍ عظيمٍ أنه حاصلٌ لِمالٍ تحت قديمه وهو ملك عليه، فصاروا يعملون الحيلة